حين رنّ جرس منزلها بعد الساعة الخامسة والربع من مساء 18 ديسمبر من عام 2019، ظنّت أم بيسان أنّ بائع الحليب عاد ليستردّ وعاءه الفارغ. تحمل الوعاء بيدها، تتجه من المطبخ نحو الباب، تفتحه، فتجد أمامها شاباً في العشرينات من العمر، شعره أسود، يرتدي سروالاً من الكتان. لم تستطع أن تتبين هويته، إذ مضى عامان على آخر مرة رأته فيها.
– تسأله: ” مين حضرتك؟ شو بدك؟”.
– يجيبها: ” أنا رامي، بدي بيسان أحكي معاها كلمتين”.
تضع الأمّ الوعاء بين درفتي الباب، وتُكلّمه من خلف الشقّ الصغير.
– “بيسان نايمة، شو بدك فيها؟”.
– يُلِحُّ رامي في طلبه، “بس كلمتين خالتي، خليني أحكي معاها بس كلمتين”.
في هذه الأثناء، تستيقظ بيسان، ابنة السابعة عشر عاماً، على وقع الأصوات في الخارج. تتجه نحو المدخل، تقف خلف أمها متخذة منها سنداً، وتشقّ الباب قليلاً.
– “شو بدَك مني؟ لوين لاحقني لهون؟”.
– “أنا بدي ياكي، أنتِ لغيري ما بتكوني”.
– “هلق من هون لأكبر الله بهونها”، تردّ طالبة الصفّ الأول ثانوي من قرية الكفر في محافظة السويداء السورية.
يُخرج رامي قنبلة يدوية من جيبه، ويلوّح بها. تتدّخل الأم محاولة تدارك المصيبة: “روح لعند أبوها، واطلب إيدها منه، وإذا إلك نصيب انشالله بتاخدها يا خالتي”.
يعلّق موجهاً كلامه إلى الفتاة، “على فكرة أنا بدي أقتلك، وأقتل أمك”. تحاول الأم إغلاق الباب، لكنّه ينفّذ ما قاله بسرعة، ويطلق رصاصة من مسدس كان بيده الثانية، تخترق صدر بيسان. وعندما سقطت ممدّدة على الأرض، فجّر القنبلة فقتلته ومزقت ساقَيْ الأم.
والدة بيسان تروي حادثة مقتل ابنتها
يقول والد بيسان لـ”خطيرة”: “عزائي الوحيد ألا يذهب دم ابنتي هدراً. وأصلّي ألا يكون موت ‘بوسي’ قد ذهب هباءً، من دون أن يسمع أحد صدى صوتها”.
ليست الحادثة الأولى ولا الأخيرة
لم تكن بيسان الأولى ولا الأخيرة بين ضحايا حوادث القتل من هذا النوع. فبعد ما يقارب الشهر على جريمة الكفر، قُتلت حنان (22 عاماً)، من قرية أخرى في مدينة السويداء أيضاً، وطالبة في قسم الإرشاد النفسي في كلية التربية، بقنبلة رماها شاب رفضت عائلتها عرض خطوبته منها، فأردتهما قتيلين في اللحظة نفسها.
إنْ عدنا إلى أرشيف الجرائم المماثلة في سوريا، سنجد قصصاً أخرى لشابات قُتلن لرفضهن عرض الحبّ أو الزواج. في يناير من عام 2018، وُجدت روان اليوسف (18 عاماً)، مقتولة في إحدى قرى طرطوس، برصاصة بندقية حربية استقرت في رأسها، أطلقها شاب كانت قد رفضته مراراً، ثم انتحر بعد ارتكاب جريمته.
أضيف السلاح المنتشر في سوريا إلى أدوات العنف ضدّ النساء بعد سنوات الحرب الطويلة. العام الماضي، نشرت “شبكة الصحافيات السوريات” تحقيقاً بعنوان “نيران صديقة“، ذُكِرت فيه قصص لنساء سوريات في بلدة معرة حرمة في محافظة إدلب التي تعاقبت على السيطرة عليها سلسلة من الفصائل المسلحة، تعرضن للعنف باستخدام السلاح الفردي من أزواج أو أقارب لهنّ، من أجل إعلان حب غير مشروط، أو تنفيساً عن حالة الجاني النفسية بعد خروجه من الاعتقال.
يُعَدّ القتل أشد أشكال العنف تطرفاً ضد المرأة. وأوضح بحث صدر عام 2018 عن “مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة”، “أنّ غالبية ضحايا القتل من الرجال يقتلهم غرباء، إلا أنّ النساء أكثر عرضة للقتل على يد مقرّبين”.
وتعرّف الأمم المتحدة هذه الجرائم بمصطلح “قتل النساء Femicide”، وتَقصد به توصيف حالات القتل العمد للنساء، وتشير إلى أنّ “التسامح العام إزاء العنف ضدّ المرأة، يؤدّي إلى تفاقم جرائم القتل، المُستَندة في جذورها إلى التمييز بين الجنسين، وعلاقات القوّة غير المتكافئة بين النساء والرجال”.
في السياق السوري، لا يُعتبر القتل أو ابتزاز الفتيات الراغبات بإنهاء علاقة عاطفية حدثاً غريباً أو مستجداً، لكن تداوله على مواقع التواصل، ساهم بلفت انتباه الرأي العام إلى ما وصلت إليه تداعيات هدر كيان المرأة، باعتبارها كائناً يمكن امتلاكه والتحكّم به، ويكون قتلها في حال عدم انصياعها ذروة الاستبداد المجتمعي.
حين تكاد ساحة المعركة تخلو من المقاتلين، يبقى السلاح، فيجد له بعض الذكور استخدامات جديدة: التنكيل بالنساء، وفرض سطوتهم على فتيات رفضن حبيباً أو قلن لا لخطيب
الرفض كابوس الرجال
قبل حوالي عشر سنوات، تعرّضت مرام لابتزاز حبيبها عندما أخبرته أنّها تريد الانسحاب من علاقتهما بعد عام تقريباً على بدايتها. “حين قلت له إنّي لا أريد المواصلة، صار يتبعني إلى الجامعة، ويهددني بالفضيحة، ويحكي لمعارفي عن مواصفات جسمي، وقياس صدري، وأماكن لقائنا”.
طوّر حبيبها السابق أسلوب تهديداته وبلغ به الأمر حدّ تعليق أوراق على جدران شوارع منطقتها في دمشق، تحمل صورتها واسمها وتفاصيل العلاقة التي ربطتهما معاً.
تشير الدراسات إلى اختلاف بين الرجال والنساء في التعاطي مع الرفض. ويرى الرجال في الرفض تحدّياً لرجولتهم وإهانة لمكانتهم في التسلسل الهرمي الاجتماعي، ما يشعرهم بالحاجة إلى اتّخاذ إجراء عنيف، بينما تميل النساء إلى الشعور بالأذى العاطفي، مفترضات أن فيهن عيباً تسبّب برفضهنّ من قبل الطرف الآخر.
تؤيّد الصحافية سلوى زكزك كسر نمطية العلاقة التي يبادر فيها الشاب إلى طلب يد الفتاة وخطبتها والدفاع عن شرفها، وتقول “إن الذكورية مضاف إليها خلطة من النفوذ والسلاح المتوفر بسهولة بسبب الحرب، تجعل الشاب المغمور يشعر برغبة حادة بالتملك والاستئثار، فيعتبر فكرة رفض الفتاة له غير مقبولة لأنه أصبح مطلق القوة”.
وترى اختصاصية علم النفس لانا سعيد أنّ العنف الاجتماعي ضدّ المرأة ليس العامل الوحيد لهذا النوع من الجرائم، إذ “يكون لاضطراب الشخصية دور أيضاً، ومنها الشخصية المضادة التي لا تقبل أن يُرفض لها طلب، وتجعل صاحبها يلجأ إلى وسائل عنيفة، أو أن الجاني يعاني من اكتئاب شديد، أو من اضطراب فُصامي، فيختار إنهاء حياته وحياة شريكته معاً”.
تتعدى حدود هذه المشكلة نطاق المجتمعات العربية، وتُظهر الأبحاث والقصص التي ترويها النساء بأنفسهن أن عدم تقبل الرجال الرفض كإجابة مُتأصل حتى في أكثر المجتمعات تقدماً، وهذا ما يدفعهم إلى الإفراط في إظهار رجولتهم. شهدت أميركا مثلاً حوادث قتل عدة على صلة بالرفض، وربطت التحليلات والدراسات التي تلت هذه الحوادث ردود فعل الرجال العنيفة وتقبل أفراد كثر من المجتمع لها بالإيمان بالقوالب النمطية الجنسانية مثل تفوق الذكور ومفهوم الشرف.
الأسباب عديدة والنتيجة واحدة
في سوريا، سعت الحركة النسوية منذ القرن التاسع عشر إلى كسر الاحتكار الذكوري للثقافة، ثم اتخذت طابعاً تنظيمياً بإطلاق الاتحاد النسائي السوري عام 1933، وقد لعب دوراً مهمّاً في كثير من المفاصل التاريخية المهمّة في البلاد.
وفي العام 1967، بعد تسلم حزب البعث السلطة، تشكل الاتحاد النسائي العام. تركزت نشاطاته على إنشاء المستوصفات، وعقد دورات تدريبية في شؤون التدبير المنزلي، وجرى حله بعد خمسين عاماً، تاركاً وراءه أسئلة واستفسارات عن جدوى فاعليته، لكونه لم يسهم بإنجازات بنيوية حقيقية للمرأة السورية.
حالياً، توفر منظمات المجتمع المدني العاملة في القطاع النسوي ضمن خططها وبرامجها مساحة للدعم القانوني والنفسي لضحايا العنف بشكل مجاني، إلا أنها تواجه قمعاً من الأجهزة الحكومية لعرقلة نشاطاتها. ويؤكد شادي صعب، مدير جمعية توليب لحماية المرأة والطفل، “أن تعميماً صدر نهاية عام 2018، يمنع أي منظمة، مرخصة كانت أم غير مرخصة، من تقديم الحماية القانونية باستثناء تلك التي تتلقى دعماً من الدولة”.
وتنشط تجمعات نسويّة سورية على مواقع التواصل الاجتماعي من دون أن تحقق نتائج مؤثرة على أرض الواقع. وعند كل جريمة تدفع النساء ثمنها، تتصاعد وتيرة المطالبات بكفّ الأذى عنهنّ، محملة ذكورية المجتمع مسؤولية هذه الجرائم.
يعترض بعض الشباب على إلقاء اللوم على العقلية الذكورية دائماً. يعتبر مهندس المعلوماتية نوّار السبعة أنّ الخلل يكمن في التربية التي تَغرس في ذهنية الشباب والفتيات أفكاراً مغلوطة، فتُعلّم الشاب أنّه “شب بياخد العقل”، وليس هناك أسباب تجعل أية فتاة ترفضه، وتُربي الفتاة على أنها في حالة بحث دائم عن عريس تختاره بناءً على مواصفات ‘فنية وتعبوية’، وليس بناء على حب وتفاهم لتأسيس حياة مشتركة”.
من جهته، يقول مجد حرب “إن مقاربة رجل ضد امرأة تعميميّة، ويعتبر أنّ هناك أسباباً إضافية لجرائم القتل، منها انتشار المخدرات بشكل كبير، وما تفرزه من اختلال في التوازن العقلي، والوضع النفسي في المجتمع السوري عموماً، حيث الكيان البشري فيه مهدور بالكامل، والشعور بقيمة الحياة معدوم، مما يدفع الفرد إلى تبني آليات دفاعية منها العنف وقتل النفس”.
الحلول غير متاحة
تبقى تحليلات كهذه ضرورية لكنها غير كافية لوضع حلول جذرية لممارسات قتل وابتزاز النساء، ونشاط النسويات السوريات لوحده لن يكون قادراً على احتواء العنف ضد النساء، من دون أن تكون هناك قوانين خاصة تردع مرتكبيه، ومن دون توفر مراكز ومؤسسات حكومية أو غير حكومية، تقدم الاستشارة والدعم لضحايا العنف والابتزاز، وما لم تُضبط حيازة السلاح والمخدرات.
ومن المتوقع بحسب لبنى البدوي، الباحثة في قضايا المرأة والجندر، “أن يزداد منسوب الابتزاز والجرائم ضد النساء، لأن العنف الذي تعيشه سوريا منذ عشر سنوات، وإنْ تراجع في كثير من المناطق، سيظل مرئياً ومحسوساً، فالذاكرة الجمعية للأفراد تحتفظ بمدخلات العنف، وتتجسد بشكل فعلي في البيئات التي تتوفر فيها ظروف تسمح بذلك”.
أمنيات عائلات الضحايا بعودة الزمن إلى الوراء ستظل غير محققة. قبل دقائق من الحادثة، كانت بيسان نائمة بجوار أمها، وقبلها بساعات كانتا معاً تتسوقان الثياب والحاجيات استعداداً لانتهاء الامتحانات النصف سنوية. كانت تخطط مع أصدقائها وصديقاتها للاحتفال بالخلاص من عناء الفصل الدراسي الأول، لكن الموت حال بينها وبين ذلك، وصبغ حياة عائلتها بالأسى إلى غير رجعة.