أُطالع عدة مراجعٍ باحثةً عن معنى الانتماء، هذا المفهومُ الإنسانيُّ الذي يتَمحورُ حولَ المشاعرِ الدَّاخلية التي تُحرِّك فينا الولاء، سواءٌ أكانَ لفكرة، أو شخص، أو جماعة، أو كيانٍ معيَّن. أراني أعودُ بذاكرتي لكلِّ القوالبِ التي أحاطَتني، ومازالتْ، والتي جَبلَتْ “انتمائِي” منذُ صَرختي الأولى. بنتٌ فَرِح والدها بِمجيئها، ربَّما لفَقدِه أمَّه صغيراً. بنتٌ أحزنَتْ بمجيئِها والدَ أبيها لكراهيةٍ تعمَّقتْ به على خلفيّةِ مجتمعٍ أعلنَ أنَّ “همَّ البناتِ للممات”. لاجئةٌ فلسطينيةٌ جُبِلتْ على الانتماءِ لوطنٍ مدمىً تراهُ فقط على شاشةِ التلفاز، فتنتَمي لذاكرةٍ في أهازيجِ جدَّتها، لغضبٍ يقبعُ عالقاً بينَ جدرانِ عُنصريةٍ خانقةٍ، لشعورٍ دفينٍ بالنَقص بسببِ وثيقةِ سفرٍ ملَّ من النظر إليها ضابطُ الأمنِ في المطار. فتاةٌ مِن مجتَمعٌ “محافِظٍ”، أدركَتْ مبكّراً أنَّ هذا المجتَمع المحافِظ يفرضُ سيطرَته بالكاملِ على المرأةِ بشكلٍ خاصٍ، ويَكيلُ بمكيالَين، فلا يُعيقُ أخاها الأكبرَ مِن أنْ يجتمعَ بحميميةٍ مع حبيبَته، بينما تُخفي هيَ حُبَّ مراهَقتِها الأولِّ في طيَّات دفترِها المدرسي. فتاةٌ امتدَّتْ إلى جسدِها أيادٍ عابثةٍ، نَجِسة، فحاصَرتْ انتماءَها له، لبراءتِه، لقدسيَّته ولرغباتِهِ على مَرِّ عُقودٍ طويلة. امرأةٌ عربيِّةُ اللِّسان، أدركَتْ أنَّ حتّى لغتها تُسقِطُها مِن “العُمومية” لتَضعَها في خانةِ الاستِثناء. امرأةٌ سمراءُ البشرةِ في مُجتمعٍ مهووسٍ “بالبياض”.
امرأةٌ استمالَها الشِّعرُ فأدرَكتْ أنَّ الحُّب لا جسدَ له. امرأةٌ شاءَتِ الأقدارُ أن ترسِلَها صغيرةً في السِّن لمجتمعٍ لُغتُه أكثرُ شُموليةً، فوجدَتْ بينَ أحضانِ هذه اللُّغةِ ما يُشبِهُها أكثَر فقرأتْ ودرسَتْ بِلُغةِ ذلكَ المجتَمعِ حتّى اتّسعَتْ آفاقُها. امرأةٌ أسقطَتْ من قاموسِها خوفَها المزمنَ من الاختلافِ، فوجَدتْ في لُجوئِها فُرصةً للانتماءِ لِنفسها، لأفكارِها هيَ، لجسدِها هيَ، لذِكرياتٍ من صُنعها، لمجتمعٍ تَنتَقي هيَ أصحابَه. امرأةٌ أدرَكتْ أنَّ الانتماءَ هو مفهومٌ بغايةِ الشَّخصيةِ، وقوالبُهُ المحدودةُ ما وُضِعَتْ إلّا لتُعادَ صياغَتُهم مِن جديدٍ، فتنتَقي هيَ ما يُشبِهها ويَعكِس جوهرَها لترسُمَ ملامحَ انتِمائها تماماً كَما هي: امرأةٌ، تستوطِنُ الكونَ بأكمَلهِ، عاشقةٌ، متعدّدةُ الألسُنِ، سمراءُ البشرة.
“خَطيرة” تبحثُ هذا الشَّهر عن الانتماءِ بأبعادِه المختلفةِ، تَخلقُ المساحاتِ كعادتِها لتوسِّعَ آفاقنا، لتُعيدَ صياغةَ المَعهودِ ولتَستوطني أنتِ كونَكِ.
دمتُنَّ خطيراتٍ،
رنا عسقول
رئيسة التحرير – خطيرة