حين اختارت بنّة حيدر التخصّص بالبرمجة والخوارزميات، منتصف التسعينيات، كان خياراً استثنائياً، ليس للنساء في المنطقة العربية فقط، بل في العالم أيضاً.
ساندتها عائلتها وجامعتها، وتخرّجت عام 1997 من المعهد العالي للعلوم التطبيقية في لبنان. حالياً، تدرّس البرمجة في عدد من المعاهد اللبنانية، ولديها خبرة طويلة في بناء أنظمة التشغيل الذكية والخوارزميات.
تقول لـ”خطيرة”: “إن هيمنة الرجال تاريخياً على الميدان، أثرت على صناعة الخوارزميات التي تُشَغِّل التطبيقات الذكية، فباتت بياناتها تميل تلقائياً إليهم”.
بين جيل بنّة، وجيل جويل، المبرمجة المبتدئة، 23 عاماً، اتسعت خلالها فجوة التحيّز الجندري في القطاع الرقمي لصالح الذكور.
عام 2018، تركت جويل المعهد حيث كانت تدرس الإلكترونيات وعلوم الحوسبة، بسبب ما تعرّضت له من تمييز وسخرية من قبل زملائها في الصفّ.
اكتشفت جويل شغفها بفكّ وتركيب القطع الإلكترونية حين كانت في سنّ الثانية عشرة، عندما أصلحت بطارية هاتفها بنفسها.
حين قرّرت دراسة الإلكترونيات، كانت الوحيدة بين 27 شاباً في الصفّ، ولم يتقبّلوا وجودها. تخبرنا: “كانوا يتعمّدون الشتم أمامي، أو يقلدون صوتي عندما أطرح سؤالاً على الأستاذ، ومرّة كسر زميلي في الصفّ لوح ترميز الكتروني أمضيت أياماً في صناعته”. تضيف: “لم يكن يعجبهم وجود فتاة معهم في الصفّ، وتعاملوا معي بخشونة واضحة. مرّة صفعني أحدهم على رقبتي، فغادرت الصفّ ولم أعد”.
تحب جويل الأزياء الصاخبة. صوتها يميل إلى الخشونة. استخدم زملاؤها تلك التفاصيل ضدها، ليتنمروا عليها. انتقلت لدراسة اختصاص آخر، هي المعروفة بحذاقتها في الرياضيات والفيزياء، وتعدّ من الشابات الواعدات في مجال البرمجة. تنتظر الآن نيلها شهادة رسمية من المعهد المهني، لكي تنتقل إلى الجامعة، وتتابع دراسة البرمجة.
تشبه قصة جويل قصص آلاف الفتيات اللواتي يتُقْن للتخصص في مجالات يحتكرها الرجال.
النساء يشغلن اليوم ما يقارب 25 بالمئة فقط من مجمل العاملين في مهن الحوسبة، علماً أن هذا المجال شيّد على أكتاف النساء
مهنة بدأت بالحياكة
يشير المركز الوطني للنساء في تكنولوجيا المعلومات (NCWIT) في الولايات المتحدة، إلى أنّ النساء يشغلن 25 بالمئة فقط من مجمل العاملين في مهن الحوسبة في البلاد. لا تختلف هذه النسبة في باقي الدول كثيراً، علماً أن الحوسبة والتحليل المنطقي التطبيقي شيّد على أكتاف النساء.
يعود الفضل في تأسيس البنية الخوارزمية للآلة الحاسبة، إلى عالمة الرياضيات البريطانية آدا لوفيلاس (1815-1952). كذلك يعود الفضل لستّ مبرمجات في ابتكار البرنامج المشغل لأول كمبيوتر صنع في الولايات المتحدة، عام 1945، واستخدم لأغراض حربيّة.
عندما بدأ تصنيع الكمبيوترات الأولى، اختصّت النساء بكتابة البرمجيات، لذلك أطلق على وسائط التشغيل اسم Software. لم يكن الرجال يحبون العمل في مهنة اعتبرت، في بداياتها، أقرب إلى الحياكة. لذلك كانوا يعملون في تجميع قطع الكومبيوترات الثقيلة أو Hardware، خاصة أنّ النماذج الأولى منها كانت ضخمة الحجم.
في الستينيات، كانت المبرمجات يتولين مهمّة كتابة آلاف سطور البرمجة بأساليب قديمة، تشبه الحياكة، ثمّ مراجعتها، من خلال طباعتها والتدقيق بكلّ سطر. كنّ يضعن الورقة في آلة تحوّل ما هو مكتوب إلى ثقوب، وإن تبيّن وجود خطأ، كن يعدن كتابة الشيفرة من جديدة.
في تلك الحقبة، لم تكن أجهزة الكمبيوتر تمتلك لوحات مفاتيح أو شاشات، ولم يكن واجباً للتوظيف في صناعة البرامج أن تكون المرأة متعلمة. كان يكفي أن تجيد الحياكة، ونسج الخيوط، وأن تمتلك القدرة على التحليل المنطقي.

من القمر إلى الكمبيوتر الشخصي
عام 1969 شاركت المبرمجة الأميركية مارغريت هاملتون بكتابة شيفرة مشروع أبولو لصالح وكالة ناسا، خلال مهمّة إرسال رحلتها الشهيرة إلى القمر. استخدمت هاملتون لغة فورتران التشفيرية التي أبصرت النور في الخمسينيات.

في الثمانينيات، تراجع حضور النساء في عالم البرمجة، ليبلغ معدلات منخفضة جداً، تكاد توازي 15 بالمئة.
في عام 1985، صدر أول نموذج لكمبيوتر ماكنتوش، وصدر كمبيوتر آخر عن شركة “أي بي أم”. دخلت مايكروسوفت على خط المنافسة في صناعة برامج تشغيل الكمبيوترات الشخصية. صعد نجم شركات عملت على ابتكار هياكل جديد من أجهزة الكمبيوتر وأنظمة التشغيل، وأصبح بمستطاع أي شخص شراؤها وأخذها معه إلى المنزل. منذ ذلك الحين، بدأ إجهاض دور الشركات التي تعمل وفق المنظور التقليدي.
إلى جانب تغيّر نمط الإنتاج، جرى تصميم السلع التقنية بما يتناسب مع حاجة الرجال، ما أنتج بيانات متحيزة جندرياً. فمع ابتكار الكمبيوتر الشخصي، كان سعره مرتفعاً جداً، ووصل إلى 5 آلاف دولار، وبالتالي انحصرت القدرة على شرائه برجال الأعمال. كما أنّ الحملات الإعلانية لترويجه وُجِهَتْ لتجيب على حاجات تلك الفئة تحديداً من المستهلكين.
مع ظهور الكمبيوتر الشخصي، بدأ العالم الرقمي يتخذ ملامح متنافرة مع حاجات النساء الجسدية، وحتى قدرتها الشرائية. كانت ألواح المفاتيح مصممة فقط للرجال، بحجم 20 سنتيمتراً، وحجم الفأرة متناسباً مع كفّ الرجل، لذلك كانت النساء تشتكي من آلام جسدية يسببها لهنّ استخدام الكومبيوتر. هذه المشكلة ما زالت راهنة مع الحاجة لإعادة تشكيل عالم تكنولوجي يرى النساء.
بيانات منحازة
الفورة في مجال البرمجة خلال الثمانينيات، ترافقت مع كميّة بيانات مهمّة، تعدّ بمثابة كنز لشركات التكنولوجيا. لكنّ هذه البيانات استندت أساساً إلى تجارب الذكور، واستخدمت لتطوير الذكاء الاصطناعي والخوارزميات والتعلم الآلي والتعلم العميق وآلات التحقق من الوجه وغيرها. وحين يرث الذكاء الاصطناعي بيانات تستند إلى تحليل تجارب الذكور، قد يكون التأثير كارثياً.
على سبيل المثال، رسبت معظم النساء في اختبار توظيف أجرته شركة “أمازون” عام 2018. كان الاختبار مدعوماً بالذكاء الاصطناعي، وتبيّن أن سطوره التشفيرية نشأت من دون الأخذ بعين الاعتبار وجود النساء. طوّر الاختبار استناداً على آلاف البيانات لمرشحين سابقين، وبما أن مهنة البرمجة والمعلوماتية يسيطر عليها الذكور، خرج برمجته بنتائج متحيّزة، أفشلت حظوظ النساء بالنجاح.
تضع الشركات التقنية خططاً لتصحيح مسار التحيز الجندري في قطاع البرمجة، من خلال توظيف نساء، وخلق نموذج جديد يلحظ المرأة.
تحسنت خلال السنوات الماضية نسب مشاركة النساء في القطاع التكنولوجي، وللنساء في المنطقة العربية دور فاعل، إذ تفيد الإحصاءات أن نسبة رائدات الأعمال في القطاع تبلغ 35 بالمئة، في حين أن المعدل العالمي 10 بالمئة فقط.
مبرمجات عربيات شرسات
تشارك منال رسلان في تنظيم مباريات روبوتكس في لبنان، وتقول: “ألاحظ خلال عملي أن الفتيات أكثر شراسة ورشاقة في كتابة السطور التشفيرية للبرامج. أحياناً يعجز الشبان عن مجاراتهن، كما أنّهن يرفعن مستوى فرقهنّ في المباريات”.
ولكن، بحسب رسلان، هناك عقبات عدة ما زالت تواجه النساء، وتتبلور في قلة ثقة مجتمع المبرمجين بقدرتهن على قيادة المجموعات. برأيها، سنتجاوز هذه الأزمة في المستقبل القريب، مع اثبات نساء جدارتهنّ في مجال البرمجة.
وتضيف: “ثمة مشاريع عدة تدعم انخراط النساء حالياً في المنطقة العربيّة، على رأسها Girls power في لبنان، وهو مشروع يتكون من مبرمجات يعملن على تدريب أخريات، وإرشادهن إلى سبل المنافسة في سوق العمل”.
للنساء في المنطقة العربية دور فاعل في عالم التكنولوجيا، إذ تفيد الإحصاءات أن نسبة رائدات الأعمال في القطاع تبلغ 35 بالمئة، في حين أن المعدل العالمي 10 بالمئة فقط
ومن المبادرات في لبنان أيضاً، مخيم لتدريب المبرمجات تنظمه شركة SE Factory، ويدرّب سنوياً عشرات الشابات على تحديات سوق العمل.
وفي الإمارات تدير عائشة بن بشر مشروع “دبي الذكية”، وتبلغ النساء نسبة 50 بالمئة من المشاركين فيه.
تشارك المبرمجة اللبنانية سارة عبد الله سنوياً بتدريب مبرمجين في شركة فيسبوك، وتعمل في منتدى الاقتصاد العالمي، ومبادرة Techwomen الهادفة لدعم النساء العربيات في سوق عمل التقنية والبرمجيات. وقد أسست أيضاً شركة “ليبرو” لتنظيم القدرات بما يناسب سوق العمل.
تقول سارة عبد الله لـ”خطيرة” إنّ 25 بالمئة من المتخرجات باختصاصات تقنية، يتمكن من دخول سوق العمل، في المنطقة العربية.
تحاضر سارة في الجامعة، وقد لاحظت في السنتين الأخيرتين ارتفاعاً كبيراً بمشاركة النساء في الصفوف التكنولوجية. وتضيف: “عندما بدأ فيسبوك قبل خمس سنوات مشروعه لتطوير أداء المبرمجين، كانت نسبة مشاركة النساء متدنية جداً، حوالي 5 بالمئة فقط، وتبلغ حالياً 23 بالمئة”.
تلاحظ عبد الله أنّ خوفاً مجهولاً يسيطر على النساء خلال تقديمهنّ لوظيفة في القطاع الرقمي، لأنّ المنافسة كبيرة، ولأن “الرجال يحيطون أنفسهم بهالة أنهّم أقوى في التشفير والبرمجة”. لكنها ترى أن نقطة قوّة النساء تكمن في شفافيتهن، وقدرتهن على التقييم الذاتي، وإدارة الشركات”.