كانت النسوية والحقوقية التونسية خولة الكسيكسي في المدرسة الإعدادية، حين سمعت عبارة “كحلة تصفي الدمّ” للمرة الأولى في حياتها. لم تفهم قصد المتحرّش. “فيما بعد فهمت، وعرفت كم أنّ هذا المعتقد راسخ في المجتمع التونسي”، تخبرنا. حسب الموروث الشعبي التونسي، فإنّ الجنس مع امرأة سوداء، يشفي أو “يصفي” من أمراض مثل الزهري، ويقال أيضاً “نكاحهن دواء، وخاصة في فصل الشتاء”.
خولة الكسيكسي قيادية بارزة في “حراك السود” الذي تأسس عام 2011 في تونس والذي يطالب بالمساواة بين التونسيين على اختلاف جنسهم أو دينهم أو لونهم. تقول: “يلعب المعطى الأسطوري دوراً مهماً في ترسيخ ثقافة التحرّش بالنساء السود في تونس. يستند ذلك إلى ثلاث معطيات تنميطية أولها أنّ السوداء تشفي من جميع الأمراض، ثانيها أن شهيتها لممارسة الجنس غير محدودة، ثالثها أن ممارسة الجنس معها بمثابة الفوز بالجنّة”. وتضيف: “كثيراً ما تسمع التونسية السوداء في الشارع عبارة “إنني مريض، بربي يا كحلة صفيلي الدم”، وتعدّ ممارسة الجنس معها انجازاً يجب التباهي به. كما أنّ الاعتقاد السائد حول شهوتها الجنسية، يعزز التعامل معها كامرأة سهلة، ستلبي أي دعوة أو طلب”.

موروث أسطوري ثقيل
تحمل المرأة السوداء في المنطقة العربية وصمين: وصم النوع الاجتماعي، ووصم لونها الأسود. في تونس، ترتبط بها تسميات صيغت لتحقيرها والتقليل من شأنها، فهي “كحلوشة”، و”وصيفة”، و”شوشانة”.
في كتابه “الروض العاطر في نزهة الخاطر” الذي نشر مطلع القرن الخامس عشر، يكتب الشيخ أبو عبد الله النفزاوي، في باب “المحمود من النساء”: “اعلم أيّها الوزير يرحمك الله أنّ النساء على أصناف شتى فمنهن محمود ومنهن مذموم، فمن أراد ضيق الفرج وسخانته فعليه ببنات السودان وليس الخبر كالعيان. ويكون الفرج أيضاً ليس فيه رائحة قذرة، غليظة الأفخاذ والأوراك، ذات أرداف ثقال، وعكان وخصر حيد، ظريفة اليدين والرجلين، عريضة الزندين بعدة المنكبين عريضة الأكتاف، واسعة المخرم، كبيرة الردف، إن أقبلت فتنت وإن أدبرت قتلت”.
أن يكون الجسد الأسود المذكر فحلاً، فقدراته الجنسية المتخيلة لا تعيبه، بل تستخدم لصالحه. لا ينطبق ذلك على الجسد الأسود المؤنث، بل يستخدم لحصرها في أدوار مهينة، فهي خادمة سيدتها البيضاء، وعشيقة سيدها السريّة. في سلسلة “العنصرية ضد السود – الجدران غير المرئية” (2013)، يكتب عبد الواحد مكني، أستاذ محاضر في التاريخ المعاصر، مقالاً بعنوان “الشوشانة سوداء في النهار، حمراء في الليل”، ويورد فيه متحدثاً عن المتخيّل العام في ذلك العصر: “تمنح الخادمة الشوشانة سيّدها كلّ ما يريد من سعادة عابرة ودائمة، فتُشبع نهمه الجنسيّ وتطيعه في تطبيق كلّ الوصفات والوضعيات الإيروتيكية التي لا تسمح بها “الشريفة ذات الوقار” الموزون والحركات المحسوبة”. ويضيف أنّه يمكن لابن العائلة التي “تمتلك الشوشانة”، أن يتدرب على الجنس من خلال جسدها قبل الزواج. إذ “تتخيّر بعض أسر الذوات إقامة التدريب الجنسيّ لشبان العائلة في بيت “الشوشانة” التي تتكفل بالطاعة والكتمان”.
“أنا زادة”: نساء سوداوات يحكين
شهدت السنوات الماضية حراكاً نسوياً فاعلاً في تونس، خاصة على مواقع التواصل، مع إطلاق حملة “أنا زادة”، وتعني “أنا أيضاً”، وهي الاستجابة التونسية لحملة “مي تو” الأميركية. العام الماضي، أطاحت مجموعة أنا زادة ببعض المتحرشين، ومنهم من أوقف عن العمل، ومنهم من حوكم بتهمة التحرّش. نشرت آلاف النساء شهاداتهن حول التحرّش، وكانت الحملة مناسبة ليحكي المثليون أيضاً عما يطالهم من اعتداءات جنسية.
تشير احصائيات وزارة المرأة التونسية لعام 2019، إلى أنّ العنف الجسدي الممارس على النساء، بلغ نسبة 54 بالمئة، فيما بلغ العنف المعنوي نسبة 25 بالمئة. نسبٌ عالية، ولكن متوقعة، لكلّ من يقرأ شهادات النساء على مجموعة حملة “أنا زادة”، على اختلاف أعراقهن وميولهن الفكرية والسياسية والجنسية. تلفت شهادات بعض النساء السوداوات النظر، لما تحمله من أذى وتمييز مضاعف.
تقول الكسيكسي: “هناك نظرة دونية للسود، والتونسية السوداء تعدّ مواطنة من افريقيا جنوب الصحراء، أو مواطنة درجة ثانية. هكذا، لا تعود ممارسة الجنس من باب الشراكة أو النديّة، بل من باب الحقّ المكتسب. وبالتالي، فإن تعرّض المتحرّش للرفض من امرأة سوداء، يعدّ خدشاً لرجولته”.
تثير المرأة السوداء شهوة مضاعفة للذكر من غير لونها، فهي الأنثى المشتهاة خارج الأطر الشرعية وهي فرصة لإبراز فحولة الرجل ” الأبيض”، على كتلة لحمية مختلفة عن لونه. كأنّه حين يتحرّش بها، يغزو أرضاً ويحاول أن يخضعها لسيطرته. إنّه الذكر المقتحم أسوار الممنوع المرغوب والفحل الذي سيترك شارة الانتصار على جسد يثمّل صراعاً رمزياً بين قيم الحرية والعبودية، كأنه أن يستعيد زمن الحريم والتسرّي، ويحيي سلطته على أجساد النساء.
“أحسست أنّي مستباحة وأنّ مجرّد كوني امرأة وسوداء قد سلبني الحقّ في امتلاك جسدي، فالجميع يشتهيه ويزدريه في آن”
الشرطة هي المجرم أحياناً
إلى جانب الموروث الشعبي، تتهم الدولة التونسية بالتقصير في مواجهة التحرش، لا سيما جهاز الشرطة، خصوصاً بعد قضية اغتصاب ثلاث شرطيين لشابة تدعى مريم عام 2012. يومها تحوّلت القضية إلى قضية رأي عام، ولكن ذلك لم يغيّر من أداء الشرطة التي يتهمها ناشطون بالتحيّز ضد النساء والمهمشين. وبحسب الكسكسي، فإنّ عمليّة اللجوء للقضاء في ملفات التحرّش، معقدة وغير نزيهة. مع العلم أن تونس أقرت قانوناً لمناهضة العنف ضدّ النساء عام 2017.
تخبرنا حنان (اسم مستعار)، أنّها لم تشتكي للأمن عند تعرّضها للتحرّش، لأنّها تشعر بأنّها مواطنة ثانوية، لن يتعامل معها أحد بطريقة جدية. تقول لـ”خطيرة” إنّها تعرّضت للتحرّش منذ طفولتها وصولاً إلى المراهقة. “كنت لقمة سائغة، أتلقى نظرات وأسمع كلمات لم أفهمها في طفولتي. كانت نظرات البقال مخيفة، أحملها معي إلى اليوم. حتى في بيت صديقتي، والذي من المفترض أن يكون مساحة آمنة، تحرّش والدها بي خلال مراجعتنا لامتحانات الباكالوريا. كان يستغل فرصة خروج ابنته لجلب أي شيء أو انشغال أمّها في المطبخ أو تغيبها عن المنزل بسبب العمل، ليطلق العنان ليديه فيتحسس جسدي من دون أدنى خوف من العقاب أو من مواجهة غضبي”.
تضيف: لم أواجه المتحرش واكتفيت بمقاطعة منزل صديقتي ولكنّي علمت أنّ هذا التحرّش هو فاتحة لحلقات تحرّش عديدة عانيت منها في الجامعة من طرف بعض الأساتذة والطلبة وفي الشارع، أحسست أنّي مستباحة وأنّ مجرّد كوني امرأة وسوداء قد سلبني الحقّ في امتلاك جسدي، فالجميع يشتهيه ويزدريه في آن”.
السوداء المهاجرة: مشروع اضطهاد يومي
إلى الجانب التونسيات، تعاني المهاجرات الافريقيات من العنصرية بدورهنّ، ولكن على مستوى أعمق. معظمهن يهربن من بلدانهم بسبب الفقر أو النزاعات المسلحة في دولهن، وغالباً ما تكون تونس نقطة عبور نحو أوروبا. وحين تفشل مساعيهن للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر البحر، تصير تونس مكان إقامة دائم لهنّ.
تعمل بعض المهاجرات في تنظيف البيوت أو المطاعم والحانات بأجور زهيدة جداً. وتنتشر أخبار عن تعرضهنّ لاعتداءات عنصرية، تندد بها الجمعيات الحقوقية.
تفند الباحثة هاجر عرايسي في دراسة بعنوان “العنف المسلط على المهاجرات أصيلات جنوب الصحراء في تونس” (المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية – فبراير 2020)، أشكال العنف الذي تتعرض له مهاجرات جنوب الصحراء في تونس، ومنها التحرّش والاغتصاب والاجبار على الدعارة، والاستغلال الجنسي من قبل المشغل. “يستهدف العنف، بما في ذلك العنف الجنسي، المهاجرات غير القادرات على الدفاع على أنفسهن، واللواتي لا يدافع عنهن أحد، ببساطة لأنّ لا أحد يهتم لأمرهن”.

تقول الناشطة فاطمة الزهراء اللطيفي من جمعية “صوتكم”: “لا يمكن لضحايا التحرّش تجاوز ما حدث لهن بسهولة، ويتضاعف هذا الضرر إذا ما تزامن مع رفض آخر للاختلاف، وهنا أتحدث عن سوداوات البشرة. ومن الجمل التي تتردّد على ألسنة الضحايا “حسيت روحي ما نجي حتى شي”. وتضيف اللطيفي: “تتصدر المهاجرات من جنوب الصحراء ضحايا الاعتداءات الجنسية في تونس، لأنهن يتعرضن للتحرش والاستغلال الجنسي في الشارع، أو أثناء البحث عن عمل، أو عند دخولهن أي إدارة أو مستشفى. والأذى المعنوي الواقع على الضحية كبير، ولا يمكن تجاوزه بسهولة، فهي المذنبة دوماً، من وجهة نظر المجتمع”.