أينما ذهبتم في بيروت سترون وجوهاً بلا ملامح، وعيوناً شبه فارغة إلا من لحظات إدراك عابرة تترجم نفسها بغضب، حزن، صلابة، بكاء، مساعدة، عجز، لهو، رغبة بالحياة وأسئلة شبه موحّدة: “وين كنت؟ صرلك شي؟ بيتك تكسّر؟ حدا من الي بتحبن صرله شي؟”
تأتي الإجابات فتصنع قصصاً خاصة بالأشخاص وحدهم وبأماكنهم وبأجسادهم في تلك اللحظة، ذلك لأن الانفجار الذي طال كل المدينة كان انفجاراً شخصياً استهدف الجميع في الداخل والخارج.
دفن التفجير الناس في أماكنهم الآمنة التي يقصدونها ليعملوا، ويهربوا، ويرتاحوا من إجرام السلطة في الخارج.
ما قبل الانفجار
يعيش الشعب اللبناني منذ سنوات في دوامة خالية من الأمان ومليئة بالقلق، احتدّت علاماتها قبل حوالي العام. بدأت التظاهرات في لبنان، قمعت السلطة المتظاهرين وقتلتهم في الشوارع، حجزت المصارف أموال الناس وأذلّتهم بكل الطرق الممكنة… تتالت المآسي: وباء كورونا، حجر صحي، انهيار اقتصادي، سوق سوداء، حكومة فاشلة، طعام فاسد، انقطاع تام للكهرباء وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت.
عن هذه التراكمات تقول المعالجة النفسية دارين صالح حوماني “قصد اللبنانيون الشارع بعد تفشي فساد الدولة بلغة جماعية – اجتماعية تطال الجميع، وبمطالب موحّدة تصب في إطار معيشي. كان غضبهم موجهاً نحو السلطة، لكن بعد حوالي الشهرين، تحوّل الغضب من خارجي إلى داخلي وذلك لأنهم اكتشفوا مدى استهتار الدولة وفسادها وعدم قدرتهم على محاسبتها واسترداد حقوقهم منها”. تعتبر حوماني أنه في حال عدم تحقيق العدالة التي تشفي من الصدمات الاقتصادية والعاطفية والنفسية، سيترجم غضب اللبنانيين بأمراض نفسية – سلوكية.
ويقول الاختصاصي في إدارة الصدمات النفسية خالد نصّار إن نسبة القلق ارتفعت لدى الناس بسبب الحياة اليومية المفروضة عليهم إلى حدّ لم يعد يحتمله أي جهاز عصبي. “تحوّل ذلك إلى قلق مزمن، وبالتالي فإن الانفجار ليس السبب الرئيسي لظهور كل العوارض النفسية والسلوكية التي نراها وسنراها، بل هو نقطة التحول التي ستؤدي إلى انكشاف كل التراكمات السابقة، إضافة إلى ما سينتج عن صدمة الانفجار نفسه”.
الانفجار من الداخل
ظنّ أغلب سكان بيروت أن الانفجار استهدف المبنى أو الحي الذي يسكنونه. لم يفهم أحد حجم الدمار إلا بعد انتشار مقاطع الفيديو التي تظهر اللحظات الأولى من حدوث الانفجار.
حين نمشي في الشارع ننظر إلى الأعلى لنبتعد عن كل ما يمكن أن يقع على رؤوسنا. نتلفّت حولنا فنرى وجوه الغرباء والأصدقاء ملطّخة بالدماء، وندوس على شوارع فرشت بالزّجاج. في يوم 4 آب 2020، سيطرت ثلاثة أصوات على الفضاء العام وصار لبيروت صوت انفجار، صوت صرخات الناس، وصوت تحطّم الزجاج.
نجوتُ وأشعر بالذنب
تقول ديانا: “كنت في منزلي في شارع الجمّيزة حين سمعت الانفجار الأوّل وهربت سريعاً نحو المطبخ البعيد عن الواجهة البحرية. في البدء ظننت أن المولد الكهربائي انفجر تحت المبنى، بعد ثوانٍ أصبح لون المنزل أبيض بالكامل. لا أذكر شيئًا بعد هذا”.
تتابع: “استيقظت على صوت جاري الذي حملني نحو مستشفى الروم، لنكتشف أن المستشفى لم يعد موجوداً، وأن أمراً كبيراً جداً قد حدث. رأيت جثثاً وأشلاء، وامرأة تمشي حافية على الزجاج. كُسرت يدي اليمنى بسبب قوّة الارتطام، وحتى اللحظة لا يمكنني السير جيّداً بسبب إصاباتي”.
وتضيف: “اعتدت في منزلي أن أفتح النافذة وأراقب بيروت ومن ثمّ أرسل صورة لأصدقائي مرفقة بعبارة “صباح الخير يا بيروت”. منذ انفجار 4 آب، صرت أنظر عبر الحائط المكسور من دون أن أتفوّه بكلمة ومن دون أن أشعر بشيء. مرة واحدة فقط، بعد لحظة إدراك، قلت: “يا الله يا بيروت”.
“فقدتُ منزلي والكثير من ذكرياتي، لكني لم أفقد شخصاً عزيزاً ونجوت بأعجوبة، ولهذا أشعر بأني محظوظة، وأشعر بالذنب* في كثير من الأحيان لأن الناس فقدوا أرواحهم في أماكن كان يفترض أن تكون آمنة، في يوم كان يفترض أن يكون عادياً”، تختم ديانا.
“إذا شفت طائر الفينيق بدي قوصه”
تخبرنا ميادة: “شكله في طيران بالجو”، لم أكد أكمل جملتي هذه، حتى تطاير الزجاج في كل مكان. حتى الآن، ما زلت لا أعلم ما الذي سبّب إصابتي، الزجاج، المكتب أو الحائط. كنت قد خرجت من مكتبي المواجه للبحر نحو مكتب زميلتي لأجلب بضعة أوراق، حين عدت للاطمئنان على زميلي، ظننت أنه مات لأنه لم يستجب لاسمه، لاحقاً علمت أنه كان تحت وقع الصدمة”.
تضيف: “لم أستوعب مدى حجم الانفجار، وفي اللاوعي، ظننت أنه انفجار صغير استهدف منطقة محدّدة. في المستشفى فهمت حجم الكارثة، يد مبتورة، زجاج يقتصّ رقبة رجل، ورجل آخر فقد وجهه. جلست على كرسي مليء بالدم لامرأة مقعدة كانت تضمد جراحها، منتظرة الطبيب لينتهي من تقطيب جراح أحد المصابين لكنّ الأخير توفّي بين يديه. طلب الطبيب أن يجلس لمدة 10 دقائق مع نفسه، فذهب، وسند رأسه فوق أحد الرفوف المليئة بالأدوية”.
تتابع ميادة: “في يومياتي العادية كنت أرى أنني قوية، لكني حالياً غير قادرة على التمييز بين الوجع الجسدي والنفسي، وفي حال استمرار هذه الحالة وظهور عوارض نفسيّة جديدة سألجأ لطبيب مختص لأني غير قادرة على التعامل مع جروحي، مع المشاهد التي رأيتها ومع رائحة الدم التي بقيت في أنفي لمدّة يومين. لم أعد أملك الإرادة لأقاتل فقط لكي أحيا، نعم أنا أحب الحياة، لكني لا أريد الردم والدمار. علينا أن نشفي من الصدمة لكي نكمل حياتنا. وكلا نحن لسنا طائر الفينيق الذي يبعث من الرماد، هيدا طائر الفينيق إذا شفته بدّي قوصه”.
“كلا نحن لسنا طائر الفينيق الذي يبعث من الرماد، هيدا طائر الفينيق إذا شفته بدّي قوصه”
الجهاز العصبي في حالة ترقّب
تعريف الصدمة النفسية: “ضرر يلحق بالعقل نتيجة لحدث مؤلم. غالباً ما تكون الصدمة ناتجة عن قدر هائل من الإجهاد يتجاوز قدرة الفرد على التأقلم، التحمّل أو دمج المشاعر المرتبطة بتلك التجربة”.
يقول نصّار:” لكل شخص طريقته الخاصة بالتعامل مع الحدث، وليس بالضرورة إن كان الحدث صادماً أن يعاني الشخص من صدمة نفسية. ما حدث بعد انفجار بيروت هو أن الجهاز العصبي لدى الأفراد الذين شهدوا الانفجار اختبر خوفاً شديداً جداً مرفقاً بقلق عالٍ جداً، خلال مدّة زمنية قصيرة، وبالتالي فإن جهازهم العصبي تعرّض لخضّة، فباتوا في وعيهم ولا وعيهم، ينتظرون الضربة القادمة. كأن الدماغ يعمل لمدة 24 ساعة في حالة ترقّب وتحسّب لأي خطر ممكن، كي يحمي نفسه من أي خوف أو صدمة”.
ويضيف: “الفرد بعد الانفجار ليس هو نفسه ما قبل الانفجار. سيمر بمراحل عدّة منها الخوف، الغضب، والشعور بالعجز، ومن الطبيعي أن تستمر هذه المشاعر لحوالي 6 أشهر لا أكثر”. ويلفت إلى أن “طريقة التعامل مع الصدمة تعتمد على التاريخ الشخصي وظروف كل فرد، وعلى مدى تضرّره بسبب الانفجار. ومن الممكن أيضاً أن تنتقل الصدمة للأشخاص الذين لم يتضرروا كثيراً في ما يسمى بـ “الصدمة الثانوية**” أو “الصدمة غير المباشرة” وذلك بسبب فظاعة ما حدث”.
لا صح ولا خطأ في التعامل مع الفاجعة
لا اعتذار حتى اللحظة من مسؤول واحد. انفجرت المدينة فوق أجساد سكّانها، ولم يتحمّل أحد منهم مسؤولية ما حدث بل قررّوا أن يروا “الجانب المشرق” من الفاجعة عبر فرحتهم بـ”فك الحصار”.
هذا الحصار الذين يعتبرون أنه فكّ مرّ فوق جثث أطفال كانوا يلعبون في منازلهم، وفوج إطفاء هرع لإخماد النار، ورجل تسعيني أصم لم يسمع الانفجار ولم يفهم ما حدث له، وآباء أكملوا عملهم من أجل 5 آلاف ليرة لم يعودوا بها إلى أطفالهم، ومفقودين أصبح القمح فوقهم، وأم ماتت في السيارة أمام ولديها، وصيّاد غرقت سيارته في البحر وحين أخرجوه بعد 9 أيام لم نرَ منه سوى يده الممدودة من النافذة، ورجل وقف أمام المرفأ باحثاً عن ابنه ولم يطالب الدولة سوى بأن “جرفوا وعطونا ولادنا حتّى ندفنهم”…
“فكّ الحصار” بعد تعب سنوات وذكريات كثيرة تبدأ من المنازل ولا تنتهي في الشوارع والمباني والأرصفة، وقصص وأسماء لها أصحابها الذين يشبهوننا، والذين مشوا في هذه المدينة مثلنا، ولم ينجوا لأنهم كانوا هناك ونحن نجونا لأننا كنا هنا.
صباح اليوم التالي للانفجار امتلأت الأحياء بالشابات والشبّان الذين بدأوا تلقائياً بتنظيف المنازل والمحال، وإعادة ترميم كل الدمار، بمجهود لم يتوقف حتى اللحظة في ظل غياب الدولة. انقسمت الآراء بين من رأى أنه يجب المساعدة فوراً وبين من رأى أن الدمار الذي سببته السلطة يجب أن تتحمل مسؤوليته السلطة.
تشرح حوماني ألّا طريقة صحيحة أو خاطئة للتعامل مع الفاجعة، ولا يحق لأحد تحديد ما هو الصواب وما هو الخاطئ. فالطبيعية البشرية تبحث في صلبها عن التوازن، وبالتالي فإن فعل المساعدة هو مواساة للنفس أيضاً بعد شعور الذنب من النجاة. كما أن التكاتف الاجتماعي بين الناس يشكّل عملية شفاء ودعم للأشخاص في ظل “خيبة الأمان” الناتجة عن الانفجار وعن غياب السلطة والمسؤولين.
وعن الفكرة نفسها يشرح نصّار أن النزول إلى الشارع يشكّل عملية تفريغ للقلق المزمن الذي يشعر به الناس فبعد موقف يسبّب القلق والتوتر، يفرز الجسم كميات عالية من هرمون الأدرينالين الذي يزيد من معدّل ضربات القلب وضغط الدم ويرفع معدل الطاقة. ولكن يضيف نصّار: “على الرغم من عملية التفريغ هذه لا تزال نسبة القلق عالية جداً لدى الناس، أي أن الغدد تستمر بإفراز كميات عالية من الأدرينالين ولذلك نرى أن أكثرية الناس اليوم دخلوا في مرحلة التعب أو الاحتراق النفسي”.
الدمار من الخارج
يعاني اللبنانيون الذين يعيشون في الخارج من تبعات الانفجار كغيرهم في الداخل، وقد يكون قلقهم أكبر، إذ أنهم لا يملكون صورة عن الواقع سوى تلك التي يرونها في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. وبحسب نصّار تصل الأخبار لكل الذين يعيشون في الخارج بطريقة مضخّمة ومركّزة يومياً فيظهر الواقع لهم أكبر مما هو عليه.
تعيش صباح في ألمانيا، وتقول: “لا زلت غير قادرة على العمل أو الدراسة حتى اللحظة، بعد حدوث الانفجار جلست لمدّة أسبوع كامل في المنزل، وعند خروجي لم أتحدّث سوى عن بيروت والانفجار. هناك شعور غريب بأن نعيش كل حياتنا في مكان ما وأن يحدث أمراً بهذا الحجم ومشاهدته على الشاشة، هناك أيضاً عدم تصديق بأن ما حدث حقيقي، وخوف بأنه عند عودتي سأرى الدمار بعيني، أنصدم مجدداً وأتأكد أنه حقيقي”.
تضيف: “حين أمشي في شوارع ألمانيا أنظر وأتساءل كيف يعيش كل هؤلاء الناس هنا غير مدركين أو آبهين لما حدث في بيروت، أعلم أن المقارنة غير عادلة، لكن هناك غضب لأنهم لا يعيشون نفس المأساة التي نعيشها، وأشعر أنه من المعيب أن أعيش حياة طبيعية أو أن أزايد خصوصاً أنني في الخارج، ومن ثم أعود وأتذكر أن السياسيين لا يشعرون بشيء بينما نحن نشعر بالذنب، وأتساءل كيف لا يزالون على قيد الحياة”.
العدالة كعلاج
في لبنان اعتدت الدولة من خلال الانفجار على شعب بأكمله، ولم تُتخذ حتى اللحظة أي إجراءات لمحاسبة المسؤولين عن الجريمة. يشرح خالد نصّار أن “واحدة من الطبقات التي تشكّل التوتر لدى الأفراد تُصنع من “اللاعدالة والظلم” والتي تؤدّي إلى شعور العجز الذي يزيد من الصدمة”.
في الحالات التي يحدث فيها اعتداء جسدي أو اغتصاب، قد تتفادى الضحية الـ”تروما” في حال واجهت المعتدي عليه وحاسبته، وذلك لأنها استردت حقها من خلال مبدأ “العين بالعين”. عدم قدرة الشعب اللبناني على استرجاع حقّه من السلطة أو محاسبتها حتى اللحظة هي فكرة مدمّرة على الصعيد النفسي، وفي حال عدم تحقيق هذه العدالة ستظهر العوارض النفسية القوية على الأفراد بعد حوالي 6 أو 7 أشهر وستكون عوارض نفسية – سلوكية – صحيّة.
يقول نصار: “في حال عدم قدرة بعض اللبنانيين على تفريغ مشاعر العجز والقلق المزمن باتجاه المسؤولين والسلطة، سيفرغونها بالحلقات الأضعف في محيطهم الاجتماعي إلا في حال قيامهم بفعل آخر أشبعهم، وجعلهم يشعرون أنه حقّقوا عدالتهم”.
*عقدة النجاة: حالة عقلية تسبّب ذنباً ذاتياً للشخص الذي يعتقد أنه ارتكب خطأً من خلال النجاة من حادثة صادمة بينما لم ينج آخرون.
** تغير داخلي يحصل عند الأشخاص الذين يتعاملون مع من يمرون بحالات الصدمة أو من يساعدونهم، نتيجة للتماس العاطفي مع الضحايا المصابين بصدمات نفسية.