تتحدث بعض الأمثال العربية عن أهمية وجود الشريك في حياتنا، وتخص الرجل بتلك الأهمية على الأغلب، إذ لا بد للمرأة من رجل يحميها أو يؤنس وحدتها.
يقول أحد الأمثال المصرية “ظل راجل ولا ظل حيطة”، بمعنى أن وجود الرجل في حياة المرأة، أي رجل كان، أفضل من حياتها وحيدة بين جدران المنزل، وآخر من سوريا “الرجّال بالبيت رحمة ولو كان فحمة”، أي أن الرجل وإن كان شخصاً سيئاً، هو نعمة في حياة المرأة.
تعكس تلك الأمثال عقلية راسخة في وعينا الجماعي، تحثنا، نحن النساء، على وجود شريك في حياتنا ليكملنا، بغض النظر عن انسجامنا معه أو صفاته. عزوبية النساء وصمة، وغياب الشريك فراغٌ لا يمكن ملؤه.
تجاوزت الكثير من النساء في منطقتنا العربية تلك التنميطات، وتحاول أخريات كل يوم تجاوزها. كثيرات يعشن بقناعة أنّ الحياة من دون شريك هي أيضاً حياة مرضية وممتعة وإيجابية، وإن كان بشكل مختلف عن الحياة المشتركة. “لا نحتاج بالضرورة إلى نصف آخر يكملنا، فنحن مكتملات أساساً”.
لماذا اخترنا الحياة من دون شريك؟
للنساء اللواتي تحدثت إليهن “خطيرة”، دوافع مختلفة لاختيار الحياة من دون شريك، لكنها تتقاطع في نقاط عدّة.
منذ خمس سنوات، تطلّقت مريم (33 عاماً)، وهي سيدة لبنانية ثلاثينية، من زوجها. تعيش اليوم مع ابنها فقط، وتعمل كمديرة للجودة في إحدى الشركات في لبنان.
بعد طلاقها عن قناعة كاملة، كما تقول، قررت أن تكمل حياتها وحدها، مانحة ابنها حياة مستقلة لا يتحكم بها طرف ثالث، ونفسها إمكانية أن تختبر نمطاً يتيح لها التركيز على مسيرتها المهنية وحياتها الشخصية، الأمر الذي تبين بأنه مريح لدرجة كبيرة.
“لدي عملي وعلاقاتي ووقتي ممتلئ، وصرت أصرف طاقتي واهتمامي على نفسي وعملي وابني، وأنا اليوم ملكة قراراتي والآمرة الناهية بكل ما يخص شؤوني”، تقول مريم.
تتحدث جهان (33 عاماً)، وهي صانعة محتوى تعيش في بيروت وحدها، منذ عامين، عن “تطور طبيعي لمسار حياتها”، بعدما تطلقت من زوجها وعاشت عدداً من العلاقات، فكان قرارها للفترة الحالية أن تعيش من دون شريك، لأكثر من سبب.
من هذه الأسباب عدم قناعتها بديناميكية العلاقة بين الرجل والمرأة خصوصاً في منطقتنا، حيث تحكم العادات والتقاليد مجمل العلاقات، فيجد الشريكان نفسيهما أمام أسئلة من نمط “من يجب أن يكسب نقوداً أكثر؟ من المسؤول عن العمل خارج المنزل؟ وعن الأعمال المنزلية؟”. ذلك ما يضعهما أمام أدوار محدّدة مسبقاً قد لا يرغب أحدهما بتأديتها.
إضافة لذلك، ترفض جهان ومنذ زمن طويل فكرة الإنجاب، وهو أمر أساسي في استمرار معظم العلاقات كما تقول، إذ يندر وجود رجال يحملون القناعات نفسها، وبالتالي تتقلص خياراتها بشريك ملائم.
بدأت جهان بالتركيز أكثر على حياتها ومهنتها ووضعها المادي، من دون أن تكون مضطرة لبناء كل قراراتها مع شخص آخر. تقول: “صرت أشعر بالاستقلالية، فأنا اليوم قادرة على أن أقرر كيف أريد تطوير مهنتي، وإن كنت أرغب مثلاً بالسفر للعمل في مكان آخر”.
وتضيف جهان بأن “مجمل العلاقات تتطلّب طاقة فكرية وعاطفية للتعامل مع القرارات المحيطة بها، ومع مشاعر وأسئلة واحتمالات قد تولدها وتؤدي للقلق والتخبط وعدم الثقة بالنفس، ومع مواقف تفرضها، خصوصاً في مجتمعنا حيث تتعرض النساء ومنذ الصغر لتدخلات بقراراتهن الخاصة، وأسئلة من قبيل: لماذا ترتدين هذا؟ أو تأكلين ذلك؟ إلى أين تذهبين؟”.
تشعر جهان اليوم بوجود وقت فائض قابل للاستغلال، وتشبّه الأمر “بحالة من الصفاء الذهني كمن يصوم أو يمتنع لفترة طويلة عن الطعام أو الشراب أو التدخين، فيتمكن من التركيز على أمور أخرى”.
لدى عفاف، وهي سيدة خمسينية تعيش في دمشق وتعمل بإحدى الدوائر الحكومية، أسباب مختلفة لاختيار العزوبية. اختبرت بعض العلاقات في عشرينياتها وثلاثينياتها، ولم يُكتب لأي منها الاستمرار، “وعند وصولي لسن الأربعين أدركتُ بأنني على الأغلب سأقضي بقية حياتي وحيدة من دون شريك. كان الأمر صعباً بداية، لكنه فتح أمامي خيارات جديدة لم أفكر بها من قبل”، تقول.
من تلك الخيارات إعادة بناء شبكة علاقاتها على أسس مختلفة تولي الصداقات اهتماماً أكبر، وتعلّم الاستمتاع بالتفاصيل حولها، والأهم وفق حديثها: اكتشاف نفسها من جديد، بناء على خبراتها وخياراتها الشخصية، وليس على ما يفرضه المجتمع عادة على النساء، خاصة اللواتي يتوقع منهنّ وفق مرحلتهنّ العمرية، تأدية دور الزوجة والأم فقط.
وتشبّه عفاف كل ذلك بأنه رحلة بدأت منذ عدة سنوات، ولا يبدو بأنها ستنتهي عما قريب. “هي رحلة ممتعة، أعيد من خلالها ترتيب أولوياتي، والتركيز على أمور لم أكن أعتقد بأنني أحبها، ومنها الانخراط في أنشطة لاكتشاف الطبيعة، والقراءة، وحضور بعض الفعاليات الثقافية”.
“ترفض مجتمعاتنا على الأغلب أن تكون المرأة قوية لهذه الدرجة، أي أن تتمتع بالجرأة لتعيش بمفردها من دون أن تحتاج أحداً”
هل الأمر ممكن حقاً؟
خيار الحياة باستقلالية من دون شريك ليس سهلاً بالطبع، فهو يتطلب وجود عوامل مساعدة، ويعني الخوض في تحديات كثيرة.
من تلك العوامل، وعلى رأسها ربما، الاستقلال الاقتصادي الذي يمنح المرأة فرصة التفكير بهذا الخيار، وإمكانية تطبيقه بشكل عملي. “وضعي المادي والجهد الكبير الذي بذلته لتطوير نفسي عملياً شكّلا أهم المقومات التي أعطتني استقلاليةً سمحت لي بأن أعيش بمفردي”، تقول مريم، وتضيف بأنه نوع من “الحظ” الذي لا تتمتع به معظم النساء المطلقات في منطقتنا.
ويتيح هذا الاستقلال للمرأة التي اختارت متابعة حياتها وحدها، أن تواجه مجتمعاً يحاول بشتى الطرق فرض نمط معين من الحياة على الجميع، ووصم من يختار الخروج عن هذا النمط بصفات سلبية، وبأنه كائن “ناقص” أو “بائس”.
“ترفض مجتمعاتنا على الأغلب أن تكون المرأة قوية لهذه الدرجة، أي أن تتمتع بالجرأة لتعيش بمفردها من دون أن تحتاج أحداً”، تقول مريم وتشير إلى أن هذا الرفض لا يأتي بالضرورة فقط من الرجال، وإنما في أحيان كثيرة من نساء يستنكرن تمتع قريناتهنّ بهذا القدر من “الجرأة”.
ولا يلغي ذلك بعض التحديات التي تتعرض لها مريم في حياتها اليومية أو بشكل عام. تطرح ضاحكة مثالاً عن تفاجئ بعض جيرانها أحياناً من توليها أمور المنزل بنفسها، وتواجدها مع أصحاب البيوت الأخرى، وهم رجال، ليناقشوا قرارات معينة تخص البناء والأقسام المشتركة فيه.
وبالنسبة لجهان، قد يكون التحدي الأكبر هو “الحاجة العاطفية لوجود شخص نضمّه ونعبر له عن مشاعرنا”. يشكّل وجود الأصدقاء حولها تعويضاً عن ذلك، كما أن تركيزها على عملها وإنتاجيتها يحتل الحيّز الأكبر من اهتمامها حالياً.
أما عفاف، فهي تتعرض في بعض الأحيان لوصمة “العانس” وهو التعبير الذي يطلقه المجتمع السوري على المرأة التي تقدمت في العمر ولم تتزوج، معتبراً الأمر علّة أو نقصاً فيها على الأغلب. تقول: “اعتدت التعامل مع التعليقات التي أسمعها في بعض الأحيان، فلا أوليها أي اهتمام، وبالعكس أتغلب عليها بالسخرية والمزاح، وأفرض في المقابل شخصيتي التي تمنع الناس شيئاً فشيئاً عن وصفي بتلك الكلمة”.
الحياة ممتعة على انفراد
“ليس بالضرورة أن يكون لكل امرأة شريك”، تقول كل من مريم وعفاف وجهان، ويرين بأن الصورة النمطية عن المرأة وضرورة كونها زوجة وأماً تتغير شيئاً فشيئاً حتى داخل أكثر المجتمعات تقليدية، والعديد من الأشخاص باتوا يتحدثون عن أهداف مختلفة لحياتهم بعيداً عن تكوين أسرة.
أخذت هذه الفكرة بالانتشار خلال العقود الخمسة الأخيرة لتصبح أكثر قبولاً داخل العديد من المجتمعات حول العالم، وإن بنسب متباينة. تختلف شعبية “الحياة دون شريك” من منطقة لأخرى، وتتعلق بشكل أساسي بمدى قدرة الشخص على أن يعيش وحيداً، ومقدار رغبته بذلك، إضافة إلى درجة الأهمية التي تتمتع بها الروابط العائلية ومسارات الحياة التقليدية وعلى رأسها الزواج والإنجاب، بمقابل الفردية والاستقلالية والخيار الشخصي.
تتحدث دراسة نشرتها مجلة Population and Development Review في شهر فبراير 2020 عن “تزايد نسبة من يعيشون بمفردهم في المجتمعات الغربية، وذلك في سياق تغير عدد من القيم والتفضيلات والحقائق وظروف العمل”.
عن طريق مسح مجموعة من العلاقات والمتغيرات في 113 بلداً، تستنتج الدراسة بأن أميركا وأوروبا هي من أكثر المناطق توجهاً نحو هذا النمط الجديد من الحياة، تليها أفريقيا وأميركا اللاتينية، ثم آسيا التي لا زالت تولي أهمية كبيرة جداً للعلاقات العائلية.
تضاف إلى ذلك عوامل أخرى لها علاقة بتغير الأدوار الجندرية حول العالم، فالرجال الذين كانوا بالنسبة لأمهاتنا وجداتنا أزواجاً فقط، هم اليوم بالنسبة لنا أزواج وأصدقاء ورؤساء ومرؤوسون وطلاب ومعلمون؛ إلى جانب ارتفاع متوسط سن الزواج الأول حول العالم، وتمتع المرأة عقداً بعد آخر بمزيد من المكاسب المادية، ما أتاح لها التفكير بخيارات أخرى غير الزواج.
لا يمكننا هنا إغفال الدور التراكمي لنشاط الحركة النسوية خلال القرن الأخير في إرساء فكرة أنّ الارتباط بحد ذاته ليس ضرورة لكل امرأة، مقابل أهداف أخرى يمكن أن ترسمها لحياتها.
وفي هذا الصدد، تتحدث مجلة الطب النفسي الأميركية Psychology Today في مقال صادر أواخر العام 2019 عن أن “استمتاع المرأة بقضاء أوقاتها وحيدة، وقدرتها على متابعة اهتماماتها وهواياتها، هو من الأسباب التي تزيد من رغبتها بأن تعيش بمفردها”.
تعرفت إلى أفكاري ومعتقداتي وطموحاتي من دون وجود عيون أخرى مسلطة عليّ، وسمح لي ذلك بأن أحدد أكثر نوع العلاقات التي يناسبني أن أكون جزءاً منها. هذه مرحلة ضرورية على كل فتاة أن تمر بها قبل أن تقرر الارتباط، فكيف لنا أن نعرف من نريد إن كنا لا نعرف أنفسنا حقاً
وفي دراسة نفذتها جامعة أريزونا عام 2017، تبين أن الحالة الاجتماعية للمرأة تؤثر على صحتها. وفي حالات محددة، قد تتيح الحياة من دون شريك للمرأة أن تركز أكثر على نفسها وصحتها، ما يعني نتائج إيجابية لحياتها على المدى الطويل، سواء من الناحية الجسدية أو النفسية. كما تتحدث دراسات صادرة في العقد الأخير عن أن من يعيشون من دون شريك هم اليوم أكثر رضا عن حياتهم مما كانوا عليه في السابق، وتزداد حالة الرضا هذه مع التقدم بالعمر.
لا نغلق الباب تماماً
على مر السنوات، تغيّر مفهوم الشراكة بالنسبة لمريم وجهان ونساء كثيرات غيرهما. تعرفن أكثر إلى أنفسهنّ، وبالتالي إلى ما يرغبن به فعلاً.
“أنا اليوم أمتلك الوقت الكافي لأبني علاقة جديدة مع نفسي بعيداً عن تأثير أي شخص آخر”، تقول جهان. “يمكنني القول بأنني خلال هذه السنوات تعرفت إلى أفكاري ومعتقداتي وطموحاتي من دون وجود عيون أخرى مسلطة عليّ، وسمح لي ذلك بأن أحدد أكثر نوع العلاقات التي يناسبني أن أكون جزءاً منها”.
وتعتقد جهان بأن هذه الاكتشافات أمر لا يعوّض، ومرحلة ضرورية على كل فتاة أن تمر بها قبل أن تقرر الارتباط، “فكيف لنا أن نعرف من نريد إن كنا لا نعرف أنفسنا حقاً؟”.
وترى مريم بأن الشراكة ضرورية، “لكنها يجب أن تُبنى على الانسجام العقلي والمادي والمعنوي والوظيفي والعملي، وإلا يستحيل استمرارها بشكل متوازن”، وتضيف بأن الشراكة التي تفضلها اليوم هي عقلية وفكرية وعاطفية أكثر منها مكانية وفيزيائية، فقد يكفي تشارك بعض تفاصيل الحياة وليس جميعها، بما يضمن وجود المساحة والحرية التي لم يعد لدى مريم الاستعداد للاستغناء عنها.
لكن ومن جهة أخرى، تضيق خيارات مريم لبناء تلك العلاقة المتوازنة، مع النظر للمستوى العملي والعلمي والمادي الذي وصلت إليه اليوم، فهي تريد شخصاً ملائماً من كافة النواحي الفكرية والعملية والمادية، وهو أمر قد يصعب تحقيقه. مع ذلك، لن تتنازل عن فكرة “الشريك الملائم”، إذ ترى أن “وجود الشريك أمر لطيف لكن وجود الشريك الخاطئ أمر عنيف”.
وتعتقد مريم وجهان وعفاف بأن على كل امرأة اتباع نمط الحياة الذي يلائمها، سواء رغبت بالارتباط أو بالحياة وحيدة من غير شريك، بدون أن تولي رأي المجتمع أهمية تطغى على سعادتها الشخصية.
“المجتمع لم ولن يكون مسؤولاً عن سعادتنا”. “علينا أن نكون متصالحين مع حياتنا، لا أن نكبّل أنفسنا بمعايير غير مريحة أو مزعجة”. “حان الوقت لنرسم حياتنا بالطريقة التي نريدها، لا كما يريد لنا الآخرون”. “يجب أن يكون الموضوع اختياراً وليس إجباراً، ميزة وليس عقاباً”، هو ما تقوله العديد من السيدات في منطقتنا اليوم، وقد توصلن إليه عن قناعة تامة.