“سأبقى أحبك بقدر السعادة التي رسمتها في حياتي وسأظل أرفق اسمك مع كل دعاء ابعثه للسماء”، كتبت الشابة الفلسطينية روزان مقبل (24 عاماً)، من رام الله، عبر حسابها على فايسبوك. حين أعلنت حبّها لمن كان سيصبح رفيق دربها، لم تكن تتخيّل أنّه سيكون قاتلها. ففي آخر شهر يوليو الماضي، خرجت روزان مع خطيبها أحمد ولم تعد إلا جثة هامدة.
روزان ضحية تضاف لسلسلة ضحايا قتل النساء في المجتمع الفلسطيني… وبـ”فنجان قهوة”، يقفل الملفّ، بحضور رجال العشيرتين ووجهائهما. ويأتي “التعويض” أحياناً على شكل عطوة عشائرية أو دية، وفي أحيان أخرى ينفّذ مطلب الجلوة، وتعني ترحيل عشيرة المجني كاملة من منطقة سكنهم، إلى منطقة بعيدة أخرى.
انتهت قصة مقتل روزان بدفع عشيرة خطيبها، آل كويك، مبلغ 31 ألف دينار أردني، لعشيرتها آل مقبل. وتلك الدنانير دفعة من أصل 100 ألف دينار (حوالي 141 ألف دولار أميركي) متفق عليها، تستكمل بعد عام. كما منعت عائلة الجاني من الاقتراب من مضارب عائلة المجني عليها.
مراسم بيع الدم
تداول مستخدمون على مواقع التواصل تسجيلاً للعطوة العشائرية في قضية مقتل روزان، معبرين عن استيائهم مما أسموه مراسم “بيع الدم”، في إشارة للمساومة على المبلغ المترتب على عشيرة القاتل. وطالب بعضهم بسن قانون يحفظ حق الضحية، وتطبيق القصاص لردع الآخرين.
هل سيروي فنجانُ القهوة قبرَ روزان مقبل! هل ستوقف ال١٠٠ ألف دينار سلسلة القتل بفوراتِ الغضب والشرف!
شاهت الوجوه التي تباركُ القتل وتقبلُ العطوة على الدم.. فالدمُ بالدمِ ليردع..
محزنٌ جداً أن نرى اليوم عطوةَ عارٍ على قتل فتاةٍ بعمرِ الورد وبدمٍ بارد .. #العطوة_تشجع_على_القتل— مُحَمد القاضي? (@qadi_mohamad) August 3, 2020
#حق_روزان ضاع ب50 ألف في عطوة اليوم!!
يسقط قانون العشائر والعطوات!! يسقط حكم الشنوب والحطات!!
— Kareem Mahmoud ? (@Kareem_ama) August 3, 2020
مشهد العطوة العشائرية هذه، لم يكن الأول ولن يكون الأخير في سلسلة جرائم قتل النساء الفلسطينيات. ففي 15 يوليو 2017، قُتلت المهندسة الفلسطينية نيفين العواودة (36 عاماً) من بلدة بيرزيت، على يد شاب عشريني يعمل سائقًا على طريق رام الله – بيرزيت.
تدخل رجال العشائر في حل القضية، وانتهت العطوة العشائرية المتخصصة بجرائم الشرف بدفع عشيرة القاتل مبلغ مليون ونصف دينار أردني، و17 كيلوغراماً من الذهب الخالص.
تعددت الروايات حول مقتل العواودة، إذ أنها كانت قد كشفت قبل سنوات عن فساد إداري بمديرية التربية والتعليم حيث كانت تعمل، فقوبلت بحملة تشهير، واستقالت من عملها، وتعرّضت لتهديدات وملاحقة، ولم يتحرّك أحد للدفاع عنها. وللمفارقة، لم تصدح أصوات الدفاع عنها وعن شرفها إلا بعد مقتلها، ولم يتدخّل أحد حين كانت تتعرّض للتهديد وهي على قيد الحياة.
تشبّه الناشطة النسوية ولاء السطري (22 عاماً)، من قطاع غزة، العطوة العشائرية، بالمفاصلة على الملابس بين الشاري والبائع. ترى أن الحكم العشائري لا ينصف النساء بل يبيح المساومة على دمائهن، ويتغلب على حكم القانون، ويختلق مبررات للجاني، ولا ينصف الضحيّة.
وترى ولاء أنّ رجال الصلح والمخاتير، يقفون موقف الحياد، بدل أن يكونوا مع الطرف المظلوم، بسبب النظرة الدونية للمرأة، والتعامل مع جسدها بصفته ملكية خاصة، يفاصلون على ثمنه.
ولاء هي إحدى الناجيات من الاعتداء الجسدي واللفظي الممارس عليها من قبل شقيقها، بحسب ما أعلنت بداية شهر أغسطس 2020. واليوم هي مهددة بالقتل لأنها لم تصمت.
تشبّه ولاء العطوة العشائرية بالمفاصلة على الملابس بين الشاري والبائع
مواطنات من الدرجة الرابعة
في أغسطس 2020، جددت الحركة النسوية في فلسطين مطالبتها بإقرار قانون حماية الأسرة، خلال وقفة احتجاجية طالبت بوقف قتل النساء الفلسطينيات وتعنيفهنّ. وطالب بيان صادر عن حراك “بكفي لمناهضة العنف الأسري” بعدم المماطلة في محاسبة المجرمين، وتطبيق العقوبات المشددة، وتوفير بيئة آمنة للنساء المعنفات.

بموازاة رفع الحركات والمؤسسات النسوية في فلسطين الصوت للمطالبة بتحقيق العدالة، وضمان حق النساء بالحياة، تشنّ ضدها حملة واسعة من قبل القضاء العشائري والقوى المحافظة من منطلق اتهامها بـ”الغربنة”.
تقول “مديرة جمعية المرأة العاملة الفلسطينية للتنمية” أمل خريشة، إن الاعتماد على القضاء العشائري يعيق الوصول للعدالة في قضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي. لذلك هناك جهد متواصل للحركة النسوية الفلسطينية باتجاه سن قانون لحماية الأسرة من العنف.
وتضيف خريشة: “يعيق القضاء العشائري عملياً كل تقدم في المجتمع، ويعطي مجالاً لعدم احترام مبدأ العقد الاجتماعي المرتبط بتوفير الأمن والأمان لكافة المواطنين. ولا ننكر أن هناك جوانب إيجابية في هذه الأعراف يجب أن نبني عليها. لكن بغياب سيادة القانون، تتوغل قيم المنظومة والقضاء العشائري لفرض القوة. مطلبنا هو إضعاف هياكل العشائر باتجاه سيادة القانون والتعاطي مع النساء كمواطنات وليس كتابعات أو مخلوقات من الدرجة الثالثة والرابعة”.
من جهتها، تعرب مديرة مؤسسة “تنمية وإعلام المرأة (تام)”، سهير فراج، عن رفضها لمقايضة الدم بالمال في حالات القتل سواء النساء أو الرجال، مبينةً أن مَن معه المال يستطيع أن يقتل ويدفع ثمن الدم كدية، بالتالي العرف العشائري يهدر حق الضحية، ويزيد من الجريمة، ويعزز تسلط وهيمنة المقتدر مالياً داخل المجتمع.
وفقًا لإحصائيات مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي، عام 2016 رصد المركز 23 حالة قتل لنساء، 29 حالة عام 2017، و24 حالة قتل عام 2018. وفي معظم الحالات، يكون القاتل من المحيط القريب للضحيّة.
من معه المال يستطيع أن يقتل ويدفع ثمن الدم كدية… العرف العشائري يهدر حق الضحية ويزيد من الجريمة
“السعر المحلّي للإبل”
حدّد مجلس الإفتاء الأعلى في فلسطين قيمة الدية الشرعية المعدلة لعام 2011، باعتماد السعر المحلي للإبل. وعليـه، فـإن قيمـة الديـة المخففـة تقـدّر بـ84 ألف دينار أردني، وقيمة الدية المغلظة تقدّر بـ100 ألف دينار.
ويقول مدير دائرة إعداد الدعاة في وزارة الأوقاف الفلسطينية الدكتور ماجد صقر، إنّ للصلح العشائري إيجابيات، منها حقن الدماء. لكن الأصل في الصلح العشائري، أن يُبنى على التعليمات الدينية، وفقاً لقوله تعالى “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”، أي أن المتهم إذا انطبقت عليه مواصفات القتل العمد، يقدم من ناحية دينية للمحاكمة، ويوكل ولي أمر المقتول في أن ينفذ فيه حكم الإعدام أو أن يعفى عنه، ولكن لعدم وجود الإعدام في فلسطين تحاول العشائر حل المشكلة من خلال المال. في المقابل، يقول صقر إنّ الدين حث على التسامح والعفو، لذلك إن تخلى أقارب المجني عليه عن القصاص يستطيعون إما العفو عن القاتل، أو يأخذون الدية مقابل ذلك.
عدالة الأعراف بمواجهة القضاء
في سعي رجال العشائر ووجهائها لتهدئة النفوس، محاولة لحقن الدماء. لكن، لتلك الأعراف أبعاد اجتماعية، مع خشية العشائر من الوصمة الاجتماعية. يقول الباحث في العلوم الاجتماعية عبد العزيز الصالحي إن “وصم أفراد العشيرتين أو العائلتين جزء من الظلم السائد الذي يندرج تحت استمرار سردية “عدالة الأعراف”. فأن تكون العشيرة أو العائلة مساءلة مجتمعياً عن فعل أحد أبنائها، فذلك ظلم كبير. ولا يمكن فصل عودة العطاوي العشائرية عن قصور القانون وضعف المنظومة القضائية والتنفيذية في الضفة الغربية وقطاع غزة”.
ويوضح الصالحي أنّ “تمسك العشائر بالقضايا الحقوقية المتعلقة بالمرأة، تمثيل أبوي بامتياز. ربما شكّل هذا التمسك أحد أنواع الحماية الاجتماعية للإناث في المجتمعات سابقاً، وفقاً لمفهوم الحماية السائد حينها والمرتبط بالمفاهيم الأبوية. لكنه يرتبط أيضاً بتطويع الإناث بشكل كامل للمنظومة، أي أن الحماية منوطة بالطاعة للعشيرة. ونلاحظ أن هناك رفضاً لاعتماد قانون حماية الأسرة من العنف بحجة رفض إدخال قوانين “لا دينية” على مجتمعاتنا، ولكن باطنياً، هذا مسلك عشائري قد لا يكون له علاقة بالدين بشكل مباشر”.
يشير قاضي المحكمة العليا، ورئيس جمعية نادي القضاة السابق، المستشار أسامة الكيلاني إلى أن القضاء لا يعترف بالأحكام العشائرية، ولا توجد دائرة لتنفيذ هذه الأحكام. ويضيف: “يعتقد القائمون على تلك الأحكام أنّهم عون للجهاز القضائي، بينما يمثّل عملهم أحياناً عبءً على القضاء. فعند إبرام الصلح، يعتقدون أنه يجب على القضاء الإفراج عن المتهمين، لكن النصوص القانونية لا تخضع للأعراف العشائرية”.
ويلفت الكيلاني إلى إشكالية تواجه القضاء العشائري تتمثل بانتهاء فترة العطوة أو الهدنة المحددة بين العشائر، لتعود المشاكل وتتفاقم بعدها من جديد.
ويؤكد الكيلاني أن لا علاقة للجهاز القضائي بالعطوة العشائرية وإبرامها، كما أنّه لا يستطيع إلزام الجاني بدفع الدية أو أي التزامات مادية أخرى أقرها القضاء العشائري، إلا إن صدر بها حكم قضائي وفقاً للأصول والقانون، أو بوجود سند دين. ويحكم القضاء بتعويضات مادية بعد الاستعانة بخبراء لتقييم حجم الضرر.
وفي بعض الحالات، يعتمد القضاء، بحسب الكيلاني، على صك الصلح العشائري، كسند لإسقاط المجني عليه حقه الشخصي، ويبقى الحق العام ليأخذ مجراه والذي قد يترتب عليه الاستمرار في حبس المتهم خلافاً لرغبة وجهاء وقضاة العشائر الذين وعدوا الأطراف على عاتقهم الشخصي بإخلاء سبيله.