“فور تخرجي من كلية الإعلام جامعة القاهرة، توجهت لإتمام فترة تدريب بقسم الأخبار في إحدى الجرائد اليومية، وكان رئيسي المباشر يتابع معي العمل والتدريب بصورة يومية، ولكن بعد مرور ما يقرب من ثلاثة أشهر، لم ينشر لي أي أخبار رغم إشادة زملائي بالقسم بما أقدمه، بل كان يوجه لي الانتقادات الحادة بصورة دائمة أمام الجميع بلا أي أسباب، وبعدما نصحني زملائي بضرورة سؤال رئيسي المباشر عن أسباب معاملته السيئة معي، أبلغني بمنتهى الوقاحة أني السبب في ذلك؛ لأني جافة في التعامل معه، ولا أدخل لمكتبه وألاطفه مثل س و ص من الزميلات.
هكذا بدأت الصحفية “أ. ر” رواية تجربة تعرضها للتحرش في مكان العمل من قبل رئيسها المباشر، وتقول: “أذكر أنه قال لي حينها: أصلك واخدة الموضوع جد أوي، وعندما أبلغته بأن العلاقة بيننا علاقة عمل فحسب، وأنه بمثابة أخ أكبر لي، إذ أنه يكبرني بما لا يقل عن 15 سنة، استاء للغاية، وأبلغني بأنني لن أستمر في المكان إذا كررت ذلك الحديث مرة ثانية، خرجت من مكتبه وأنا لم أفهم ولا أعرف ماذا أفعل، خاصة أن فرص التدريب والعمل في المجال الصحفي تكاد تكون غير موجودة”.
أكملت “أ. ر” حديثها بالقول: “ظل رئيسي يطاردني ويعرض عليّ السهر معه في بار قريب من الجريدة كل أسبوع، وظللت أهرب منه، حتى جاء يوم وقابلني بمدخل الجريدة وركبنا سويًّا المصعد، فمد يده على صدري ضاحكًا دون أي مبالاة، ما أصابني بالفزع قائلا: كنت عايز اتأكد حقيقي ولا سيلكون. أصابني الرعب، دخلت الجريدة وجسدي ينتفض، توجهت لرئيس التحرير، وأبلغته بما جرى، فطلب مني الرحيل بهدوء، وأن لا أثير الفتن في مكان العمل، ووعدني بإجراء تحقيق انتظرته شهورا، وأنا في حالة نفسية سيئة للغاية، حاولت خلالها الانتحار وتوجيه اللوم لنفسي بدلًا من توجيه اللوم للجاني الذي استحل جسدي. وما زاد الطين بلة أنه تم طردي من الجريدة بحجة عدم نجاحي في فترة التدريب”.
يمثل العمل في مجال الصحافة والمجتمع المدني ضغطًا كبيرًا على العاملين به لأسباب تتعلق بطبيعة العمل، ويتساوى في ذلك النساء والرجال، لكن هناك أسبابًا إضافية جعلت النساء العاملات في ذلك المجال أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية، وأهم تلك الأسباب غياب بيئة العمل الآمنة لهن داخل المؤسسات التي يعملن بها.
خلال السنوات الخمس الأخيرة، زادت المطالبات من قبل صحفيات وناشطات بوجود سياسات للحماية من التحرش والاعتداء واستغلال السلطة في بيئة العمل. تضمن النشاط التدوين على مواقع التواصل الاجتماعي باستخدام هاشتاغ #بيئة_عمل _آمنة _للصحفيات ، ” والهاشتاغ العالمي “#MeToo”. كما تضمن مشاركة الصحفيات النقابيات في تقديم مقترحات ومذكرات لمجلس النقابة لتطبيق اتفاقية مناهضة العنف في أماكن العمل التابعة لمنظمة العمل الدولية، وذلك للعمل على إنتاج مدونات أخلاقية لبيئة العمل، وسياسات لمناهضة العنف ضد النساء، وإرساء قواعد بيئة العمل الآمنة، وإجراء تحقيقات عادلة، وتبني خطاب حساس للنوع الاجتماعي.
تقول منى عزت، الصحفية المتخصصة في الشأن النقابي وقضايا النساء: “إن هناك ضرورة لتوافر بيئة عمل آمنة ليس فقط داخل المؤسسة أو المنشأة، بل كل المواقع المرتبطة بالعمل”.
وأشارت عزت إلى أن لنقابة الصحفيين المصرية دورا كبيرا في تلقي شكاوى الصحفيات من العنف داخل بيئة العمل، سواء كان عنفا جنسيا كالتحرش، أو عنفا اقتصاديا أو بدنيا أو نفسيا. ومن المفترض داخل أماكن العمل أن يتم توفير لجنة لتلقي الشكاوى، وإجراء تحقيقات عادلة، إضافة لوجود آليات متخصصة في الشكوى والتحقيق في مختلف المؤسسات من قبل مختصين في التعامل مع العنف الواقع على النساء، على أن يكون هناك تواصل دائم بين نقابة الصحفيين والمؤسسات في تطبيق آليات التحقيق وتطبيق سياسة الحماية ومدونة السلوك.
من جانبها، تقول مها أحمد، مديرة برنامج حقوق اقتصادية واجتماعية بالمجتمع المدني: “إن هناك الكثير من وقائع التعدي على النساء العاملات في المجتمع المدني وصلت إلى حد الاغتصاب وهتك العرض، لكن رغم أن المجتمع المدني المنوط به حماية العاملات والعاملين به، تغيب عن أغلبه آليات الحماية الحقيقية للنساء، طالبنا مرارًا وتكرارًا بضرورة توفير لجان ولوائح مواجهة العنف ضد النساء، وتكوين لجان تحقيق محايدة تراعي حق جميع الأطراف، وتحافظ على سرية بيانات المبلغين والشهود ومجريات التحقيق برمتها”.
وأشارت مها أحمد إلى أن الغالبية يلومون الضحايا من النساء، ولدينا نماذج كثيرة مثل “لماذا لم ترفض.. لماذا الآن.. لماذا لم تتحدث وقتها؟” وكأن الجميع اتفق على إغفال العبء النفسي الذي يقع على الضحايا بعد التعرض للعنف، خاصة إذا كان هذا العنف جنسيًّا.
ويعد فقدان بيئة العمل الآمنة كابوسًا مريعًا لأغلب الصحفيات المصريات لأنه يختلف عن جميع أشكال العنف ضد النساء، لارتباطه الوثيق بالأمان المالي والاقتصادي المتمثل في الحصول على وظيفة ذات راتب ثابت، مما يجعله مرتبطًا بمخاوف أكثر عند الناجيات أو المتعرضات له مثل فقدان الأقدمية الوظيفية، وفرص الترقيات، والترشح لمناصب، أو فرص تطور مهني تكلفهن خسارة دعم المديرين/ات والمؤسسات لهن في بناء قدراتهن.
كما يرتبط الإبلاغ عن التحرش داخل المؤسسة بالوصمة وبلوم الناجيات أو الضحايا، وبتحميلهن مسؤولية إثبات الانتهاك أو التعدي، تجنبًا لوصمهن بأنهن مثيرات للمشكلات. هذا الأمر قد يؤدي إلى فقدانهن وظائفهن، أو إعاقة فرصهن في الحصول على وظائف أخرى في حال شاع أنهن يبلغن السلطات بتعرضهن للانتهاك، مما يمس سمعة المؤسسات، التي عادة ما تهتم بسمعتها عن طريق إجبار الناجية على الصمت مقابل اللجوء للتحقيقات والإنصاف وجبر الضرر.
وحول تجارب الصحفيات المصريات مع التمييز بين الجنسين في مكان العمل، توصلت دراسة بحثية منشورة بواسطة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بعد إجراء مقابلات فردية متعمقة مع عدد من الصحفيات، إلى أنه رغم الاتجاه لتوظيف أكبر عدد من النساء في مجالات الإعلام والصحافة، لم يحقق ذلك تمكينًا لهن، بل إنهن غالبًا ما يواجهن أشد تجارب التمييز بين الجنسين، بسبب الافتقار إلى الأمن الوظيفي وظروف العمل المهددة.
كما توصلت الدراسة إلى أنهن يواجهن التمييز في خمسة مجالات رئيسية: ترقية التوظيف التمييزية وسياسات الأجور، وصعوبة الحفاظ على التوازن بين العمل والحياة الشخصية، والممارسات المميزة على أساس الجنس في مكان العمل والتحرش الجنسي، والتمييز في تخصيص مهام إعداد التقارير المهمة، وبناء العلاقات مع إدارات المؤسسات.
ومن هنا نتوصل لحقيقة أن لفقدان بيئة العمل الآمنة تأثيرًا كبيرًا على الصحة النفسية للنساء الصحفيات والعاملات بالمجتمع المدني، حيث يتقاطع العنف المبني على النوع الاجتماعي ضدهن كنساء وتوابعه النفسية مع توابع العمل في وظائف التغطية والتحرير لأحداث صادمة أو مؤذية، وهي المخاطر التي يشتركن فيها مع الصحفيين الرجال، إضافة إلى العنف داخل أماكن العمل والتمييز على أساس النوع؛ مما يخلق معاناة متعددة الأبعاد، وعوامل تخلق بيئة خصبة للأمراض النفسية.
إذا شعرتم بالضغط النفسي بسبب عملكم أو أنكم غير قادرين على الإنتاج أو الاستمرار في العمل، يمكنكم طلب الدعم من الجهات التالية:
منظمة روري بك: https://rorypecktrust.org/ar/
لن أبقى صامتة من أريج: https://iwnss.arij.net/ar/
فرونت لاين ديفيندر: https://www.frontlinedefenders.org/en/programme/protection-grants
مركز النديم لضحايا العنف والتعذيب: https://elnadeem.org/%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%af%d9%8a%d9%85-2/