أتنقّل في العالم الافتراضي، فأجد معارفي يتأففون من حبس منزلي لم يقدروا على تحمّله لأكثر من يومين، من دون أن يشعروا بالاختناق.
استوقفتني ردة الفعل الجماعية المتذمّرة من عزل صحّي بسبب فيروس قتل الآلاف. لماذا لا يستطيعون تحمّل حبس اختياري لحماية أنفسهم؟ رحت أتذكّر الحبس الذي عشت فيه 25 عاماً.
منذ طفولتي، لم يسمح لي بالخروج من المنزل إلا إلى المدرسة. لم يكن السبب فيروساً قاتلاً، ولا خوف أهلي عليّ، بل خوف أهلي منّي، وخوفهم من خسارتي “أعزّ ما أملك”. درّبوني على الحبس المنزلي منذ الصغر، كي لا أعتاد على أيّ أسلوب حياة آخر، كعقوبة احترازية على جريمة بحقّ شرف العائلة، جريمة قد لا تحصل، لكنّ الاحتياط واجب. جريمة ليست بجريمة بالأصل، لكن في صغري كنت أراها كذلك.
سألت والدتي عن سبب عدم السماح لي بالذهاب إلى المقهى مع صديقاتي: “ليش لا؟”. وكان جوابها: “هذا الليش!”، أي لا داعي لذكر السبب، ولا داعي للسؤال مرة أخرى.
ذهبتُ في يوم من الأيام مشياً بعد المدرسة إلى المكتبة المجاورة لأشتري بعض الأقلام وإكسسوارات الشعر. كنت في الثانية عشرة من عمري. في طريقي إلى المكتبة، لمحت سيارة والدي، وعلمت أنّه جاء ليقلّنا من المدرسة بنفسه، بدل السائق اليومي. ردّة فعلي الأولى كانت أن أركض، وأركض، كأنّني هاربة من الموت. لم أفكّر بما يراه الناس، بل أسرعت عائدةً باتجاه المدرسة. وصلت، لأجد السيارة تتجه نحو المكتبة، فبدأت بالركض مجدداً بالاتجاه المعاكس. لم أكن قادرة على تخيل ما يمكن أن يحدث لي. وصلت إلى السيارة، ورأيت أخواتي جالسات في مقاعدهنّ وعلى وجوههن علامات الرعب.
استقبلني والدي ببصقة على وجهي، وبدأت الأسئلة. “أين كنتي؟ مع مين كنتي؟ ليش خايفة؟” الارتياب المعتاد والشكوك التي لا تفيد معها أيّ إجابة. كانت عقوبتي الحبس في غرفتي، حتى أتعلّم الدرس: ألا أمشي من المدرسة نحو المكتبة وحدي.
الحبس في غرفة النوم كانت العقوبة المعتادة. السجن المنزلي يتحول في أيّ لحظة إلى زنزانة انفرادية لأسخف الأسباب.
الزنزانة الانفرادية جعلت المنزل يبدو كباحة حريّة. كنت أتعاطف دوماً مع العاملة المنزلية لأنها حبيسة أيضاً، بلا سبب، فقط لأنها تريد أن تعمل وتوفّر حياة كريمة لنفسها. تُحبس خوفاً من أن تهرب، من أن تنخرط في علاقة، من أن تحكي مع شخص خارج سور المنزل، من أن تحمل بطفل، وكأنّ ذلك اسوأ سيناريو ممكن في العالم. أسوأ ما قد يحدث ليس أن يصيبها مكروه، بل أن تلمس شخصاً آخر، أو أن تتواصل مع الناس… كانت تلك الأسباب نفسها التي منعتني من الخروج ومن التواصل أو من لمس أيّ شخص آخر، ما قد يؤدّي إلى خسارة غشاء لا يعني لي شيئاً.
كلّ يوم كنتُ أحلم بالحريّة، أو بالخروج من المنزل للاستمتاع بكوب عصير مع صديقاتي. كنت أغار من صديقاتي القادرات على الخروج من المنزل، وأغار من قصصهنّ، فصرت أروي لهنّ قصصاً عن حياتي اليومية المتخيلة بعد المدرسة، مستلهمةً قصص أخي الذي لم يحرم يوماً من حريته. كان لي حبيب افتراضي يعيش في خيالي، وفي القصص التي أرويها. كنت أعيش حرّيتي في هذا الخيال.
كنت أغار من صديقاتي القادرات على الخروج من المنزل، وأغار من قصصهنّ، فصرت أروي لهنّ قصصاً عن حياتي اليومية المتخيلة بعد المدرسة، مستلهمةً قصص أخي الذي لم يحرم يوماً من حريته
مهما اعتقدت أنّ تجنّب إغضاب والدي سيوفر لي القليل من الامتيازات، لم تتسع مساحتي. كلّما كبرت، كلما ضاقت زنزانتي. ابتدع والدي عقوبات جديدة لي، على أيّ شكّ بي يجول في خاطره، مثل حرماني من الجامعة، تجريدي من أي وسيلة تواصل. كنت في الرابعة والعشرين أخفي هاتفي المحمول، كي لا يعرف أهلي أنّ لديّ وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي. كأنّ الهاتف قادر على سلبي الغشاء الملعون.
كلّ يوم كنتُ أحلم بالحريّة، وكان أنيسي التلفزيون وما يعرض من أفلام. حلمتُ بأن أصنع الأفلام لأسلّط الضوء على حبس الفتيات المنزلي في منطقتنا، بلا أي سبب. أردت أن أقول للفتيات المحبوسات في المنزل، أنني كنت هناك، في تلك الغرفة، أمام تلفزيون يخبرني عن العالم الخارجي.
كبرت وصرت أنجح بالهروب من المنزل لفترات وجيزة لأحضر عيد ميلاد صديقة، متظاهرة أنني أخرج بطريقة طبيعية جداً. ساعات من الحرية التي إن علم بها والدي، قد تتسبب بكارثة. حصل ذلك مرّة، وعلم أهلي بخروجي وأخواتي من البيت، وكانت النتيجة حبسنا في غرفة حتى نحفظ القرآن. وكلّ يوم، كان يأتي والدي لضربنا بعصا حتى تتكسر على أجسامنا.
مع الحبس، فرض علينا الحجاب، حتى في داخل المنزل. وكان ذلك الحجاب أصغر زنزانة يمكن أن أسجن فيها. كنت ألبس زنزانتي يومياً.
خلعت الحجاب، لكنّي دفعت الثمن عقوبات لم تعن لي شيئاً، لأن حريتي كانت تستحق أيّ ثمن.
ما يحزنني أنّ فتيات كثيرات لن يحصلن على الحرية عندما يختفي الفيروس، فبالنسبة لأهاليهن، حريتهنّ أخطر من أي وباء قاتل
حلمت بالحرية وخسرت الكثير لأحصل عليها، ووعدت نفسي بألا أسمح لأي قوة بحرماني منها مجدداً. لم أتخيّل يوماً أن يعيدني إلى حبسي المنزلي فيروس غير مرئي، أعلم خطره، ولا أمانع أن يصيبني، ولا أعلم ما المدّة التي سيبقيني فيها في الداخل. لكنّي، للأسف، قادرة على التأقلم مع هذا الحبس. وأفهم، أنّه للمرّة الأولى، حبسٌ لحمايتي وحماية الآخرين، وليس عقوبة لوجودي.
ما يؤلم الناس حالياً ليس البقاء في المنزل. ولكن انتزاع حريتهم منهم حتى ولو لفترة وجيزة وحتى إن كان لسبب صحّي.
ما يحزنني أنّ الفتيات والنساء حبيسات المنازل، سيمضين عقوبتهنّ مع السجان الذي لن يتحمّل الحبس، وسيعاقبهنّ على ذلك.
ما يحزنني أنّ كثيرات لن يحصلن على الحرية عندما يختفي الفيروس. فبالنسبة لأهاليهن، حريتهنّ أخطر من أي وباء قاتل.