“طَلَب منّي ابني البالغ من العمر تسع سنوات أن أتوقف عن الذهاب إلى العمل، وأن أبقى معه في المنزل خلال ساعات النهار لأنه يشعر بالوحدة. لإقناعي بالفكرة، أخبرني أنه لا يرغب بالمزيد من الألعاب، ولا يمانع في الانتقال إلى مدرسة أخرى طالما أنني سأكون معه خلال فترة الحجر المنزلي”.
في الأيام العادية، كانت هناء، 36 عاماً، ستواجه مثل هذا الطلب الذي نسمعه كثيراً من أطفالنا بابتسامة. ولكن هذه المرة، دفعها طلب ابنها إلى تقديم استقالتها من وظيفتها، بعد أشهر من التردد.
تروي أن فكرة التخلي عن عملها راودتها مرات عدة خلال العام الماضي الذي شهد تفشّي فايروس كورونا وأدّى إلى تغيير مسار كل تفاصيل الحياة اليومية التي ألِفناها، من النواحي الإنسانية، الاقتصادية، الاجتماعية والمعيشية.
قد يظن البعض أن هذه التغييرات لديها نفس الأثر على كل الناس، لكن في الواقع وضَعت الجائحة في الواجهة كل التفاوتات القائمة على أساس الهويات الجنسية، العرق، والطبقات الاجتماعية، بطريقة بشعة ومؤذية، تمسّ النساء مباشرة في حيواتهن المهنية.
بحسب تقرير لمركز ماكنزي العالمي للأبحاث، وظائف النساء أكثر عرضة للخطر بسبب هذه الأزمة من وظائف الرجال بمقدار 1.8 مرات. ورغم أن النساء يشغلن 39% فقط من مجمل الوظائف في أنحاء العالم إلا أنهن تحملّن الخسارة الأكبر، إذ تكبَّدن 54% من إجمالي الوظائف المفقودة، حتى يوليو، تاريخ إعداد التقرير.

لا يختلف الأمر كثيراً في المنطقة العربية. رغم عدم توفر أرقام رسمية، بيّنت استطلاعات عدة للرأي أن نسبة النساء اللواتي خسرن وظائفهن بشكل كامل تفوق نسبة الرجال.

الأسباب وراء الفارق في خسارة الوظائف متعددة، أبرزها أن النساء يشغلن أكثر من نصف الوظائف في ثلاثة من القطاعات الأربعة الأكثر تضرراً جراء الوباء، وهي قطاع الخدمات (فنادق ومطاعم)، تجارة التجزئة والجملة، والفنون والترفيه. ويضاف إلى ذلك زيادة أعباء أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، إذ زادت متطلباتها بشكل كبير خلال الجائحة، وهي أعمال كانت تقع بنسبة 80 – 90% على كاهل المرأة في المنطقة العربية قبل الأزمة.
تقول لينا أبو حبيب، الباحثة حول النوع الاجتماعي في معهد الأصفري في الجامعة الأمريكية في بيروت: “لم نكن نملك المعطيات الكافية للتنبؤ بأثر جائحة فايروس كورونا من كل النواحي، لكن ما يمكننا استنتاجه الآن هو عدم قدرتنا على مقاربة تفاصيل العمل كما كنّا نفعل في السابق، فالجائحة فرضت شكلاً جديداً من التواصل يقوم على التباعد الاجتماعي والعمل ضمن إطار المنزل، والمتضرّرات الأساسيات هن النساء”.
في لبنان، حيث أحد أدنى المعدلات العالمية لمشاركة النساء في سوق العمل (26% للنساء و76% للرجال)، تواجه المرأة اليوم أزمة اقتصادية مضاعفة. فعدا الصعوبات التي خلقها فايروس كورونا هنالك الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشها البلد، وانهيار سعر صرف عملته الوطنية مع ما يتصل بذلك من تضخّم هائل وفقدان الرواتب لقيمتها.
تَظهر نتيجة هذه الأزمة المزدوجة عبر عدة أرقام: 37% من النساء يقلن إن العنف ضد النساء زاد، 54% يقلن إنهن انقطعن عن العمل مؤقتاً، 21% يقلن إنهن خسرن وظائفهن بشكل دائم، حسبما يوضح استطلاع رأي أجرته شبكة الباروميتر العربي عبر الهاتف المحمول في صيف وخريف 2020.
للأمومة ضريبة تتضخم خلال الأزمات
تزايَدَت أعباء العمل الرعائي غير مدفوع الأجر خلال عام 2020 على النساء بشكل أساسي، فقد انتقل تعليم الأطفال من المدرسة إلى المنزل، ما فرض على المرأة تولّي هذه المهمّة، وصار عليها التوفيق بين عدّة وظائف رعائية وبين عملها الخاص الذي أصبح مردوده بلا قيمة بسبب الانهيار الاقتصادي الحاد الذي شهده لبنان.
وضعت هذه الظروف الكثيرات من النساء على مفترق طرق بين حياتهن المهنية وبين المسؤوليات الملقاة على عاتقهن داخل العائلة.
تعمل هناء تسع ساعات يومياً، كمسؤولة عن شؤون الأفراد في أحد البنوك، مقابل راتب صارت قيمته حوالي 170 دولاراً، مع انهيار سعر صرف العملة اللبنانية.
اضطرت للتخلي عن المساعِدة المنزلية التي كانت تتولى الاهتمام بأولادها أثناء غيابها، فصاروا يقضون معظم وقتهم لوحدهم، لا سيما مع إقفال المدارس أبوابها.
تقول: “أنا كأم عاملة، مثلي مثل الكثيرات، لا أستطيع الحضور إلى عملي ما لم أوفّر مكاناً آمناً خلال دوامي ليتواجد فيه أطفالي، إما عند الأهل، أو في حضانة، أو في مدرسة، أو في المنزل مع وجود شخص راشد، وكل هذه الخيارات أصبحت غير متوفرة مع الجائحة”.
“اخترت أمومتي لأن لا خيار ثالثاً أمامي، لكنّي أردت أكثر من ذلك لنفسي، أردت حقّي بأن أنجز كل شيء”
تؤكد هناء أن قرار تقديم استقالتها لم يكن سهلاً عليها، واستحوذ على تفكيرها لأشهر. فعودتها إلى سوق العمل بعد ولادة ابنتها تطلبت الكثير من التضحيات، واضطرت للانتظار أربعة أعوام حتى صارت ابنتها في المدرسة كي تبحث عن وظيفة.
تعتبر هناء أن قرارها لم يكن اختيارياً: “فُرضت عليّ العودة مع أطفالي إلى المنزل، فالقطاع المصرفي لم يرحم العاملات، والمجتمع بَرهَنَ كيف أنه مبني ليحمي أعمال الرجال وليس النساء، وتحديداً ليس الأمّهات”.
تشرح هناء أن زوجها حاضر ولديه معاناته، لكنّها تقتصر على مهنته فقط، ولا تمس خياراته الخاصة وكل جوانب حياته. أما هي، ولأنها امرأة، فكان عليها اتخاذ قرارات جذرية مرتبطة باستقلاليتها المادية، بمهنتها، وبأمومتها. “اخترت أمومتي لأن لا خيار ثالثاً أمامي، لكنّي أردت أكثر من ذلك لنفسي، أردت حقّي بأن أنجز كل شيء”، تقول.
تأثير إنجاب الأطفال والعمل الرعائي على المرأة وعلى آفاقها المهنية تضخم بشكل كبير في الأشهر الماضية، في مختلف أنحاء العالم. بحسب تقرير آخر لماكنزي، واحدة من كل أربع نساء في الولايات المتحدة تفكر في ما كان كثيرون يعتبرونه غير وارد: تغيير مهنتها، تخفيض ساعات العمل أو ترك وظيفتها بالكامل.
وحين تخرج المرأة من سوق العمل وتكرّس وقتها لعملها الرعائي، يصعب أن تعود إليه بعد سنوات وتجد وظيفة. عن أسباب ذلك، تقول أبو حبيب: “أولاً، لأن السوق سيكون قد تقدّم بأساليب لم تتابعها وبالتالي لن يفتح أبوابه أمامها ليستقبلها، وثانياً لأن تراكم متطلبات العائلة ستشكّل عائقاً أمام إعادة إطلاق حياتها المهنية”.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هنالك تفاوتاً كبيراً أساساً بين معدلات حضور النساء والرجال في سوق العمل، في الدول العربية تحديداً، فإن تعرّض النساء للتسريح من أعمالهنّ وتخفيض أجورهنّ، بنسب تفوق نسب ما يواجهه الرجال، قد يوجّه ضربة حادة لمشاركة المرأة في الاقتصاد المدفوع الأجر، ويقضي على التقدم المتواضع الذي تحقق في المساواة بين الجنسين في العقود الأخيرة.

الرجل المعيل، المرأة المعيلة
يكرّس النظام العالمي عدم المساواة والتفرقة بين النساء والرجال على الصعيد المهني، ويجعل من المرأة الحلقة الأضعف. تشير أبو حبيب إلى العوائق الكثيرة أمام النساء في سوق العمل ابتداءً من غياب الحماية الاجتماعية، التحرّش، المرتبات غير العادلة، وصولاً إلى عقاب المرأة العاملة على أمومتها.
وتضيف: “في هذا العام تحديداً، أصبحت لدينا أسباب إضافية لخروج النساء من سوق العمل، أو بالأحرى لإخراج النساء من سوق العمل، إذ إن الفكر الذكوري لا يرى المرأة كمعيلة أساسية في المنزل، وبالتالي يتم الاستغناء عن خدماتها بدلاً من الرجل الذي يمثّل صورة المعيل”.
خسرت سارة، 28 عاماً، عملها في إحدى شركات الإنتاج خلال الانهيار الاقتصادي الذي شهده لبنان، ومعه خسرت عائلتها المردود المادي الوحيد الذي تعتمد عليه.
بعد طردها من عملها، بحثت سارة عن بدائل لكنّها عادت وخسرتها بسبب الجائحة. بدأت تتولّى مشاريع صغيرة من ترجمات وإنتاج مقاطع فيديو، والتزمت بخطّة مالية متقشفة جعلتها تغيّر كل تفاصيل حياتها من المأكل والمشرب وحتى الخروج من المنزل.
تقول: “الانهيار الاقتصادي وتفشي وباء كورونا مسّا كل القطاعات العامّة والخاصّة، لكنّي كامراة معيلة تم مسّي بطريقة مباشرة حين لم تعترف المنظومة بدوري، ففي الوقت الذي طُردت فيه من عملي، استطاع زميلي الإبقاء على وظيفته تحت شعار أنه المعيل لعائلته”.
وتضيف: “استنتجت عدم جهوزيتي لمواجهة كل هذه العوائق. لم أؤسس يوماً عملي الخاص وسخّرت كل طاقاتي لدى رجال يملكون شركاتهم الخاصّة، ولكن في الوقت عينه أدرك أنه داخل هذه المنظومة لم يتم تجهيزي من الناحية الاجتماعية لأفكّر بطريقة مغايرة”.
دفعت الأزمة أيضاً برباب، وهي أم عزباء لولدين، إلى التفكير مليّاً بموقعها ضمن هذه المنظومة. تقول: “أنا من النساء المتفائلات في الحياة، لم أنكسر يوماً بسبب أية أزمة، لكن في السنة الأخيرة أصبح لدي شعور جديد متمثّل ببذرة قلق اختبرتها للمرة الأولى. أصبحت أفكّر بالغد طوال الوقت. ومع تفشي وباء كورونا بدأت أتساءل: ‘ليش كل شي عليّي؟’”.
توقف عمل رباب في مكتب الترجمة الذي تملكه لمدة أربعة أشهر. وفّر لها هذا الانقطاع عن العمل المزيد من الوقت مع ولديها البالغين من العمر 12 وتسعة أعوام، وهي رفاهيته لا تملكها في العادة، ولكنه ألقى أيضاً بثقله على أمانها الاقتصادي والمعيشي.
تصف رباب تلك المرحلة بـ”تجربة وعي” اكتشفَت فيها الكثير عن نفسها. تواصلت أخيراً مع والد أطفالها وطلبت منه أن يساهم أكثر. تقول: “ليس من واجب الأم أن تجلد نفسها مرة واثنتين وثلاثاً، ولا يجب أن تتحمل كل كاهل التعب الاقتصادي واليومي وحدها”.
“من المؤسف أن المسلمات التي يجب أن أحظى بها كامرأة مرتبطة باستقلالي المادي والنفسي التام عن عائلتي”
خسارة استقلالية مكلفة
ارتفعت نسب الإبلاغ عن العنف المنزلي خلال تفشي وباء كورونا، بحسب أرقام قوى الأمن الداخلي وبلغت نسبة الزيادة بنسبة 51% بين فبراير وأكتوبر 2020، وأعلن “التجمّع النسائي الديمقراطي اللبناني” عن ارتفاع نسبة الزواج المبكر في لبنان بنسبة أكثر من 13% بين الفتيات.
تُعَدّ الاستقلالية المادية شرطاً ضرورياً لخروج نساء كثيرات من علاقات مسيئة، أو من بيئة عائلية ضاغطة ومؤذية. وتشكل خسارة العمل تحدياً كبيراً أمام سبل عيشهنّ وتفقدهن آليات المواجهة القليلة التي يملكنها، وتؤثر على قدرتهن على المساواة في المعاملة والحماية من العنف.
تروي نائلة (اسم مستعار) البالغة من العمر 24 عاماً قصّة عودتها إلى منزل العائلة، بعد أن كانت قد استقرت في بيروت منذ عام 2014 لإكمال تعليمها، وبدأت بالعمل مع أطفال من ذوي الإعاقة. تقول: “مع إقفال المدارس، فقدتُ وظيفتي الثابتة وانتقلت للعمل من المنزل مع التلامذة، لكن وبسبب الخسارة المادية الكبيرة وارتفاع تكاليف المعيشة، لم أعد قادرة على دفع مستحقات الإيجار وتوفير متطلبات الحياة اليومية، واضطررت للعودة إلى القرية لأسكن مع والدي ووالدتي وأخي”.
بعودتها تحت سقف العائلة، خضعت نائلة من جديد لكل القوانين العائلية الخانقة التي كانت قد عدّتها من الماضي، وانعدمت خصوصيتها. المشكلة بحسب الشابة ليست في عائلتها التي تحبّها كثيراً بل في فقدانها لحريتها فور العودة إليهم بسبب سلطتهم الاقتصادية والأعراف الاجتماعية. “صار الخروج من المنزل أو إجراء اتصال هاتفي من أصعب الأمور، علماً أن كل هذه الضوابط لا تطال أخي بل تطالني فقط”، تروي.
بعد ثلاثة أشهر من الحجر المنزلي مع عائلتها، عادت نائلة إلى بيروت، ووجَدَت وظيفة ثابتة استطاعت من خلالها أن تستأجر منزلاً وتكسب حريتها من جديد. تقول: “من المؤسف أن المسلمات التي يجب أن أحظى بها كامرأة مرتبطة باستقلالي المادي والنفسي التام عن عائلتي”.

رغم أن الانهيار الاقتصادي والجائحة غيّرا معادلة الحياة لدى كل اللبنانيين، تتحمّل النساء الوزر الأكبر من نواح عدة. “العالم الذي نعيش فيه يحب أن يُطلق على المرأة ألقاب البطلة والقديسة طالما أنها تمارس أعمالاً رعائية شبيهة بالأمومة، لكنه يرفض أن يضمن حقوقها وحريتها، أو أن يترجم تقديره لها ولعملها من الناحية المادية، وذلك لأنه لا توجد أية مساواة أو تثمين لدور المرأة المهني، أو أي اعتراف حتّى بهذا الدور، ولهذا السبب النساء هنّ أولى ضحايا الأزمات”، تقول أبو حبيب.
وتضيف: “لكن معركتنا رابحة، والوعي الذي يتشكّل منذ عقود حتى اللحظة يزعزع المنظومة الذكورية، والنقاشات والمعارك التي نخضوها اليوم كنسويات لم يكن من المحتمل أن نتحدث عنها في السابق. الحل الوحيد هو بألا نرضى بالواقع كما هو”.
أنجزت هذه المادة بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ Rosa Luxemburg.