لم أعد أذكر وجه أحمد، لكني لمست يده الصغيرة، واختبرت مشاعر الحب الأولى معه بكل ما تحملها من عفوية.
كان الأطفال يقفزون حولنا في الملعب، ونكتفي نحن بالجلوس على الحافة الحجرية، ممسكين بأيادي بعضنا غير آبهَيْن بالمراجيح والطابات المتطايرة في الهواء. هذا الوقت كان لنا ولجسدينا الصغيرين كي يتلاصقا ببراءة من يبلغون من العمر أربع سنوات.
في إحدى المرّات كانت فرحتي بإمساك يده، مرفقة بقلق ومراقبة دائمة لبوابة المدرسة السوداء خوفاً من دخول أمي وتوبيخها لي.
لا أعلم ما هو الخطاب الذي سمعته والذي أدى إلى خلق ذلك الخوف بداخلي، لكنّي علمت بعقلي الطفولي حينها، أنني أمارس فعلاً غير مقبول اجتماعياً وقد أحاسب بسببه، وبالتالي لم أخبر أمي أو أيّ أحد عن وقتي الخاص مع الصبي الذي أحببت.
أسترجع هذه الذكرى الآن لإدراكي أن ازدواجيتي كفتاة بدأت منذ تلك اللحظة.
تتضاعف ازدواجية حياة النساء في مجتمعاتنا وتمتد لتطال في بعض الأحيان التفاصيل اليومية. لن أكرّر كل ما يقال للمرأة منذ الطفولة وحتى نهاية حياتها، حفظنا الجمل والتعاليم، ما هو العيب وما هو المطلوب لتكون المرأة “مقبولة اجتماعياً”، ولذلك سأكتفي بنقل قصص نساء من العالم العربي يشرحنّ من خلالها الازدواجية المفروضة عليهنّ يومياً بهدف التوفيق بين العالم الخارجي والعالم الذي يردن العيش فيه، وبالتالي الحيوات التي يخترعنها، يخبئنها بهدف العيش بسلام.
كارين: استعدت جسدي
“أمام عائلتي أنا كارين البالغة من العمر 28 سنة، فتاة ملتزمة دينياً، محجّبة وأؤدي جميع فروضي من الصلاة والصوم. في عالمي الذي صنعته بعيداً عنهم، أنا امرأة غير محجّبة، أؤمن بالله لكن لا أمارس شعائر دينية. أخوض علاقة حب حقيقيّة أكثر من كل الذنب الذي كنت أحمله معي كلّما مارست الجنس.
ما يبقيني متوازنة هو قدرتي على الفصل بين كل ما تشربت وبين الواقع الذي يذكرني دائماً أن الله لا يكره الحبّ وكل ما ينبع عنه من ممارسات محرّمة على النساء فقط.
تبرز حياتي المزدوجة أمامي كلّما تركت منزلي في دمشق لزيارة منزل عائلتي، تحديداً حين أشارك معهم بالأحاديث المتعلقة بشؤون النساء. والدي طبعاً، لا يعلم أنه حين تنتهي الزيارة سأذهب لأستلقي بجانب الرجل الذي أحب، وكل ما يهمه هو أنني حتى اللحظة لم أجلب العار له بحسب مفاهيمه الخاصّة.
كل فتاة أو امرأة اختبرت أقلّه لمرّة واحدة موقفاً اضطرت فيه أن تكون عكس حقيقتها كي لا تتعرض للأحكام أو التصنيف
قبل حوالي الخمس سنوات كانت هذه الأحاديث تصيبني بالإحباط، لاحقاً حين رسّخت قناعاتي، فهمت أنّ هذا الجسد امتداد ووسيلة للتعبير عني، وربّما الوسيلة الأجمل. حين استعدت جسدي من كل الأعراف والقوانين المفروضة عليه، صار التنقّل بين العوالم أسهل. كان سيكون جميلاً وربما حتى مثالياً لو أن عائلتي تعرف من أنا، لكنّهم يحبوني بطريقتهم ولا يعلمون أن وسائلهم النابعة عن خوف وسذاجة هي في صلبها ذكورية، وبالتالي ازدواجيتي هي حماية لي، لحقوقي، ولهم أيضاً”.
برزت قوّة النساء اللواتي قابلتهنّ من خلال عامل مشترك، وهو استقلالهن المادي، وبالتالي قدرتهن على التحرك خارج السلطة الاقتصادية التي كانت مسيطرة عليهن. أتاحت لهن استقلاليتهن المادية إمكانية خوض تجارب أنتجت بحسب كل امرأة قناعات شخصية تناسبها، وذلك بعد صراع طويل بين ما هو فطري وما هو مكتسب.
ديانا: أنقذتُ نفسي من أمومة معنّفة
“قبل حوالي الثلاث سنوات، حملت من زوجي الذي كان يعنّفني جسدياً، وقرّرت أنني لن أبقي الجنين، فأجهضت من دون أن يعرف أحداً.
بالنسبة لزوجي وللمحيط، ما فعلته يعتبر عملية قتل، بالنسبة لي أنقذت كائناً لم يصنع بعد من حياة تعيسة جداً، وأنقذت نفسي من أمومة لم أرغبها.
طبعا لم ألجأ للطبيب بل للأدوية، بهدف الحفاظ على السرية التامة. لمدّة شهر كامل أخفيت الحمل، المعاناة الجسدية والنفسية التي كنت أمر بها يعد الإجهاض، وعشت حياة مزدوجة كي أحمي نفسي. كنت أرد بابتسامة كلّما قال لي أحدهم: “نقشعلك عريس”.
أجهضت بسرية تامّة لأنه وبحسب القانون اللبناني أعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات بسبب “الجريمة” التي ارتكبتها”.
المواد القانونية المتعلقة بشؤون المرأة وحدها، كفيلة بالتعبير عن الظلم الذي تختبره النساء، ووزر الشرف الذي يحملنه. فحتّى القضايا المتعلقة بأجسادهن وأمومتهن، محكومة اجتماعياً وقانونياً بالأعراف، ولذلك لا مفرّ أمام النساء من خلق عوالم ومجتمعات سريّة، كي تحصَلن على أدنى رغباتهن وحقوقهن.
بعد معاناة طويلة استطاعت ديانا أن تحصل على الطلاق رغم عدم موافقة عائلتها التي اعتبرت أن خروجها من منزل زوجها سيسبب لها مشاكل عدة. تقول: “المرأة المطلقة تقود حياة أصعب، فكل تفصيل تمارسه سيتم ردّه إلى الجنس، فقط لأنها فقدت عذريتها ضمن علاقة زوجية. هناك تنميط أن خسارة غشاء البكارة يعني أن هذه المرأة أصبحت متاحة، أو كما تقول جارتنا العجوز: “مستعملة”. وهنا تبدأ الحياة المزدوجة الثانية أو العاشرة، كيف أفصل نفسي كمطلّقة عن أحكام المجتمع، وأخوض علاقة جديدة وطبيعية”.
تنانير بالسرّ وصلاة معلّقة
الأسرار في حياة المراهقات قد تكون صغيرة، ولكنها في عيون عائلاتهنّ كبيرة.
تقول مايا البالغة من العمر 14 عاماً والمقيمة في مدينة صيدا (جنوب لبنان) إن أكبر حاجز تعاني منه في الوقت الحالي هو طريقة اختيارها لملابسها، فوالدتها لا تحب أن تكون “غير محتشمة” وتفرض عليها ما ترتديه، لكن مايا تعلّمت كيفية المواربة: “أشتري الفساتين والتنانير التي أرغبها، وأرفقها دائماً بشال أو جاكيت خفيفة، وفور خروجي من المنزل أضعهما في حقيبتي، لكني أتمنّع عن التقاط الصور مع أصدقائي كي لا تنكشف خدعتي عبر مواقع التواصل وأحرم من الخروج، وهذا الأمر يسبب لي الكثير من التوتّر”.
“ريم صلّيتي؟ أسمع هذه العبارة خمس مرات يومياً”، تخبرنا الشابة اللبنانية. تقول إنها لا تعاني من مشاكل معقدة في حياتها، وليس لها عالم مزدوج تهرب إليه. “أملك المساحة الكاملة لأقرر كل ما أريده، من ناحية الملابس، الخروج أو حتى الحب. لكنّ كل هذه الخيارات الشخصية تقف عند عائلتي حين نصل إلى الأمور الدينية وتحديداً الصلاة، ولذلك أدخل يومياً إلى غرفتي، أرتدي الحجاب، أضع سجادة الصلاة أمامي أنتظر حوالي خمس دقائق ومن ثمّ أخرج وأعود إلى ممارسة حياتي الطبيعية”.
تتعامل ريم مع إصرار عائلتها على الصلاة بطريقتها. “علاقتي مع الله ليست متينة وفي نهاية الأمر هي علاقة شخصية، لكن من الأفضل أن أتجنب المشاكل مع عائلتي وعدم خوض هذا النقاش معهم، وبالتالي كل يوم ومنذ حوالي الأربع سنوات، أي حين كنت أبلغ من العمر 11 عاماً، أدّعي في غرفتي أنني أصلي”.
معارك صغيرة\كبيرة
هذه الازدواجية في تفاصيل الحياة لا تعمّم على جميع النساء أو العائلات، لكن كل فتاة أو امرأة اختبرت أقلّه لمرّة واحدة موقفاً اضطرت فيه أن تكون عكس حقيقتها كي لا تتعرض للأحكام أو التصنيف.
في وقتنا الحالي أنشأت النساء مجموعات ومجتمعات تؤمن لهنّ الحماية النفسية والجسدية، هذه المجموعات بدورها لا تزال جديدة وتواجه انتقادات من أطراف عدّة، لكنّها على أرض الواقع تعمل كبديل عن القوانين المجحفة وتخترع وسائل دفاعها الخاصّة عن الحقوق.
يظن البعض أن اختيار الملابس، طريقة الرقص او الكلام، أو حتى مجرّد التفوّه بفكرة معارضة للنمط السائد، هي مجرد تفاصيل غير مهمّة، لكن في حياة النساء كلّ التفاصيل مهمّة وتحمل خلفها أبعاداً، مخاوف، ومعارك لا تنتهي مع العائلة والمحيط. معارك تخاض بهدف الخروج من قالب صنع عبر السنوات لتوضع كل امرأة فيه.
نحن في مرحلة انتقالية والحياة المزدوجة أحياناً هي الحصانة والمواجهة الأفضل للنساء أمام العالم الذي نعيش فيه.