في 30 مايو 2020، أمَرت النيابة العامة المصرية في بيان بحبس “المُتّهمة آية، وشهرتها “منة عبد العزيز” وستة آخرين أربعة أيام على ذمّة التحقيقات، وانتدبت الطبيب الشرعي للكشف على المتّهمة المذكورة، بياناً لكيفية حدوث إصاباتها ومدى وقوع تعدٍّ جنسي عليها”.
“منة عبد العزيز” ابنة الـ17 عاماً التي اشتهرت على تطبيق “تيك توك”، أوقفتْها السلطات المصرية بعد بثّها فيديو تتّهم فيه صديقَها مازن ابراهيم باغتصابها، بصوتها المرتجف ووجهها المهشّم، وعادت وسحبته فيما بعد “تحت أثر ضغط ذوي الجاني وإغرائها بهدايا على حداثة عمرها واسترضائها ودفعها لإعلان الصلح”، وفق ما جاء في بيان النيابة العامّة.
يعترف البيان إذاً بأن منة عبد العزيز ضحية ظروف قاسية وإهمال، وأنها المجني عليها والمُتلاعَب بها، إلا أن ذلك لم يمنع النيابة العامة من استبقائها سجينةً لديها، برفقة من اعتدوا عليها.
في مصر، لم تعد ممارسات التأنيب والتقييد والاستنجاد بالهيكليات الأبوية وتدخل أولياء الأمور لـ”تربية” النساء أو كل فردٍ مختلف، إشكالياتٍ جديدة أو مُفاجئة بالضرورة. لكن تصاعد لجوء الفئات الشابة إلى المجال الإبداعي الإلكتروني تعبيراً عن أنفسهم، أو حتى “اضطراباتهم”، دفع بأجهزة الدولة إلى البحث في سبل تدجين مضامين التطبيقات الإلكترونية، والاستثمار في الحوادث المُقلقة المتداولة عليها من أجل تخويف المجتمع منها، لا من الأفكار المسببة للضرر، فآثرت إجراءات التعقب بحق مستخدميها، وتخويفهم، واخضاعهم، بخاصة الفتيات منهم.
من “فتيات الليل” إلى “فتيات تيك توك”: كيف حدث ذلك؟
على مدى عقود، أمْسَت نساء كثيرات على تهمة “فتيات الليل”، ليُصبحْن عام 2020 على شتيمة “فتيات تيك توك”. وبين مدلولات “فتيات الليل” و”فتيات تيك توك”، امتدادٌ رمزي تاريخي لأحكامٍ أخلاقيّة لم تسلم منها النساء والفتيات، حتى حين ثبت تعرّضهن لاعتداء أو ظلم.
بين الليل و”تيك توك”، قلعةٌ شُيّدت على احتراف كراهية النساء. نهجٌ عتيقٌ لم تقضِ انتصارات الحركات التغييرية سوى على القليل منه. فبالكاد احتفلت النساء باكتسابهن القدرة على المشاركة في حلقة إنتاج التعبير واستعادة السيطرة، حتى بدأن يشعرن أنهن أصبحن في الواقع عرضة لفقدانها في أي لحظة.
ما كانت النساء يتعرضن له من أذية في الماضي كان يبقى، إلى حد ما، أسيرَ إطاره الزماني والمكاني. قد يتجاوز حدوده أحياناً ليلاحقهن في يومياتهن ودروبهن، لكنه على الأقل رحمهن بأنه كان قابلاً للمحو، بالمعنى الأرشيفي للعبارة. أما اليوم، فأصبح الأذى متحرراً من كل قيد. أصبح كلّي الوجود، وقابلاً للتخليد.
ين مدلولات “فتيات الليل” و”فتيات تيك توك”، امتدادٌ رمزي تاريخي لأحكامٍ أخلاقيّة لم تسلم منها النساء والفتيات، حتى حين ثبت تعرّضهن لاعتداء أو ظلم
خاصية التخليد – أو فكرة التواجد المطلق – التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات، والتصاقها بالحدث – الخبر وصاحبه ومتلقّيه، ليست شائبة بحد ذاتها. لكنها أطبقت وبإحكام على حيوات الكثير من النساء في سياقٍ هو في الأصل معادٍ لهن.
في البداية، وافقت النساء عليها لأنهن استشعرن استفادةً من الخدمة الأشمل، فذابت تفاصيلها عنهن. لكن ما يُغفل غالباً هو أن هذه الخاصية يمكن أن تتحوّل فجأة لتُمعن في تعذيب مَن تعرّضت للإساءة، وذلك عبر تخليد الحدث المؤذي ووصم الاسم المُعلن، تماماً كما حصل مع “منة عبد العزيز” التي اعتدى عليها صديقها واعترفت النيابة العامة بهذا الاعتداء، إنما عوقبت هي بسبب أدائها على “تيك توك”.
رَبَط المجتمع والسلطات ذكراها “بفتاة تيك توك” الفاجرة، أو “فتاة الاغتصاب”، كما عنونت صحفٌ مصرية وغير مصرية؛ وظلّت هي بنظر النيابة العامة والمجتمع ضحيةً ناقصة، أي مذنبة في مجمل الأحوال.
جذور أخرى
في بدايات الألفية الثالثة، كان النادي الليلي أحد الفضاءات التي وفّرت لعددٍ من النساء فُرصَ التمتّع والاستماع إلى أغنياتٍ أحبَبْنها لم يكن يمتلكن قدرة التحكّم بمواقيت بثّها على الراديو. شكّل النادي الليلي عبوراً لهن إلى أجسادهن من خارج لباسهن المدرسي أو المنزلي، أو عباءاتهن.
كان ببساطة سبيلهن إلى الترفيه والمغامرة. إلى الرقص والخلق. إلى الجذب والانجذاب. إلى الأداء وخلع الذات.
كما “تيك توك”، كان النادي الليلي طريق بعضهن إلى الترفيه، وتجارب الأدائية المجانية، وجذب اهتمام الآخرين، واللعب مع تعبيراتهن الأنثوية، وإن لساعاتٍ وجيزة.
كان كل ذلك يحدث بمنافسةٍ محدودة، ذلك أن أكبر مرقص لم يكن يستوعب أكثر من 50 فتاة، بعكس “تيك توك” الذي استقطب في غضون أشهر ملايين الشابات حول العالم، ومن مصر خصوصاً، حاصداً المزيد من الاشتراكات خلال فترات الحجر المنزلي.
وكما بعض الفتيات على “تيك توك”، كانت نساء “النوادي” يتعرّضن من حين إلى آخر لتهم ارتكاب الفحشاء والفجور. هنّ اللبنانيات. هن الشابات المتحررات. هنّ أيضاً “فتيات الليل”، كما راجت تسميتهن في أوساط بعض المواطنين والسُياح العرب المُعجبين بجرأة المذيعات وأزيائهن الإيحائية على الشاشات الفضائيّة.
هي قصة احتراف الكراهية تجاه النساء والتسامح إزاء الكاره. هي قصة استنفار الأجهزة والنفوس الغيورة على “خصوصيّةٍ” فشلت المجتمعات ببلورة تعريفٍ موحّد لها لا تكون المرأة محورَه
طوّرت النساء أساليبهن في المواجهة حين اضطررن إليها. لكن مع اجتياح الشاشات الذكية لعوالمهن، شيءٌ ما تغيّر. في الحقيقة، الكثير تغيّر.
اليوم، وسط الحرب المشتعلة على أجساد النساء والفتيات في مصر، لا بدّ أن تعلم منة عبد العزيز، وحنين حسام، ومودّة الأدهم، أنهن غير “مقطوعات من شجرة”. فقد سبقتهن إلى ميدان المغامرة والتجربة والأدائية والنجاح والإخفاق ملايين الفتيات، ودفعنَ أثماناً باهظة مقابل انتزاعهن حقهن في العيش بحرية، وحقهن في التجربة، لا بل حقهن في “الاضطراب” أيضاً، في دولٍ هي الحاضنُ المضطرب الأوّل.
منة عبد العزيز التي اختارت أن تشتهر على “تيك توك”، أوقفتها السلطات المصريّة بعد بثّها فيديو اتّهمت فيه صديقَها باغتصابها، ورفاقها، شباناً وشابات، بالتآمر ضدها وضربِها.
حنين حسام أُوقفت على خلفيّة تشجيعها نظيراتها على مواقع التواصل الاجتماعي على الاستفادة المادية من الفيديوهات التي ينشرنها، فاتُّهمت بأنها تحرّض على الفحشاء والدعارة.
الراقصة سما المصري سُجنت بتهم الفجور والخلاعة بسبب فيديوهات مُسرّبة لها على السوشال ميديا.
مودّة الأدهم اعتُقلت لخرقها حظر التجوّل والتعرّض لـ”خصوصيّة المجتمع المصري”… كلها قصصٌ جديدة في شكلها. معقّدة في حبكتها. قديمة في جوهرها.
تكفي ملاحظة تزامن موجة اعتقال “فتيات تيك توك” مع إفراج السلطات المصريّة عن قاتل الفنّانة اللبنانيّة سوزان تميم التي وُجدت جثّة منحورة في شقّتها في دبي عام 2008. قاتل سوزان أفرج عنه، فيما المراهقة المُغامِرة أو المُستغلَّة ألقي القبض عليها. وهذه القصة، في الحقيقة، قديمة جداً.
هي قصة احتراف الكراهية تجاه النساء والتسامح إزاء الكاره. هي قصة استنفار الأجهزة والنفوس الغيورة على “خصوصيّةٍ” فشلت المجتمعات ببلورة تعريفٍ موحّد لها لا تكون المرأة محورَه، فظلّت تستعين بها للردّ على أي مؤشّر يوحي بأن في مكانٍ ما في العالم الفعلي – الافتراضي امرأة تتصرّف بما لا تشتهيه سفنُ حرّاس الهيكل.

كيف اكتسح “تيك توك” قلوب الـ Gen-Z؟
من حيث الشكل، أتاح “تيك توك” ما لا تتيحه فضاءاتٌ أخرى. فهو يحصر الدماغ بنوعٍ واحد من المنتجات، هو الفيديو. في هذا الصدد، يفيد التذكير بإحدى النظريات الإبداعية التي لا تخلو من الصواب، ومفادها أن الدماغ كلما حصرته بمعطياتٍ محدّدة، حفّزته على خلق ما هو أكثر من مجموعها. و”تيك توك” قدّم تلك الهديّة، تحديداً إلى الـGen-Z – أي المولودون والمولودات بين أواخر التسعينيات والعقد الأوّل من الألفية الثالثة- وغلّفها بتسهيلاتٍ مُغرية.
يقوم “تيك توك” على صناعة الفيديوهات القصيرة، ويمد المستخدمين والمستخدمات بإمكانية اختيار تسجيلات يتمتمونها بأصوات مؤدّيها الأصلية، ويرافقونها بمؤثّرات ممتعة، مستحضرين الأفلام والمسلسلات والشخصيات الفنية والطريفة التي تحاكيهم.
اكتسح تطبيق TikTok عالم الكثير من الفتيات اللّواتي استفدن منه وتألّمن بسببه في آن، نتيجة التنمّر الشائع على الخيالات الأنثوية عموماً
ببساطة، يؤمّن “تيك توك” لجيل الـGen-Z، والمشاهير أيضاً، مسرحاً، وإخراجاً، وسيناريو، وسرعةً في التنفيذ. إلى ذلك، يحصر التطبيق، باشتراط ألا تتعدّى مدّة الفيديو 15 ثانية، نطاقَ الانتباه الضيّق الذي تتّسم به شريحةٌ واسعة من اليافعين واليافعات اليوم.
الأدائية كمفتاحٍ للتنمّر ضد الفتيات
“تيك توك” هو تجسيدٌ لثقافة المرور السريع على كل شيء، أو ثقافة الـScroll down، من دون أن يعني ذلك خلو ساحته من أدوات الخلق والإبداع المميزة. وبمواصفاته هذه، نجح التطبيق بتلبية حاجات الفئات الشابة، إناثاً وذكوراً، لإنتاج عوالم بديلة وإطلاق العنان لمخيلتهم، لا سيّما في أوساط المجتمع المصري الذي يهوى الفنون الأدائية والفكاهية، ويتعرّض في المقابل لعملية لجم لخياله تقودها ماكينةٌ عسكرية وقانونية تشتمل اختصاصاتها على النشر والإعلام و”الآداب العامّة”، وتؤازرها شرطةٌ أخلاقية دائمة التأهّب.
وللأسباب ذاتها تقريباً، اكتسح التطبيق عالم الكثير من الفتيات اللّواتي استفدن منه وتألّمن بسببه في آن، نتيجة التنمّر الشائع على الخيالات الأنثوية عموماً، والإسراع في كبحها عبر معاقبة كل من تتجرّأ على خرق أصول بيوت الطاعة.
بعض هؤلاء الفتيات ربما شدّهن فنُّ الاستعراض، أو كانت في الحد الأدنى تُحرّكهن حاجتُهن إلى فرض الاعتراف بكياناتهن الفريدة. ثم أتت “الخصوصية المجتمعية” الشهيرة لتقف في وجه استكشافهن لذواتهن ومحيطهن، فأحالتهن مجرد شلّة “مضطرباتٍ” لاهثات وراء عدادات المشاهدة.
الاستعراض ببعده الفنّي طريقٌ سريعٌ إلى التنمّر. فعندما يخوض الفرد مجال التقديم والأداء والتمثيل، قد لا يعلم في بادئ الأمر أنه يعرض هشاشتَه أيضاً للعامة، ويعرّض نفسه لشيء من القساوة التي عليه الاستعداد لقبولها، كسائر الأفراد الذين يقتحمون معترك الفن أو الشأن العام. فهو سيشارك حركاته وملامحه وجسمه ووقفته ونبرته وضعف نظره وتجعّد شعره والمساحات بين أسنانه وسقطاته الفكرية وغيرها من التفاصيل التي ستُسجّل له وتُحفظ ليومٍ آتٍ لا محالة. سيخذله صوته مرةً، ويُفاجأ بأن الصوت الخاذل هو الذي سيخلّد ذكراه.
في “تيك توك”، كل صاحب حساب هو فنان صغير، وممثل، وهاوي استعراض. وحال “تيك توك” هي حال هوليوود، حيث يُستسهل التحرّش بنساء الـ”مي تو”. وهي حال مصر، حيث يُباحُ استهداف فستان رانيا يوسف ولا تُنتقد ربطة عنق أي ذكر وطأت قدماه السجادة الحمراء. وهي حال العالم، حيث لا تزال تُعاقب كلّ من جسرت على المغامرة والاختلاف، أي عيش ما لا يُسمح لها باختباره.
على “تيك توك”، كما على سائر التطبيقات، تتحوّل في حالات كثيرة ممارساتُ التوبيخ والعنف والتنميط الجندري إلى مواد رائجة بغلافٍ من الخفة والفكاهة. وإذا كان التقبل المجتمعي لتلك السلوكيات أمراً لا يزال سهلاً، فمن شأن استنساخها تكنولوجياً بمساعدة “تيك توك”، وبالتوليفة الطريفة التي يقدّمها، أن يزيد تقبلها سهولةً، وربما سرعةً أيضاً.
إذاً، نجح “تيك توك” في فرض اسمه على قائمة وسائل النشر والتعبير والتمكين، التي يمكن أن تنقلب على حين غفلة إلى وسائل نشرٍ للتنمّر والعنف والابتزاز الإلكتروني، والتي تضاعفت خلال فترة الحجر المنزلي على رغم سياسات بعض التطبيقات المناهِضة لها. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن 73 بالمئة من النساء المُستخدِمات للإنترنت تعرّضن سابقاً لها.
في مقابل كل مقطع تؤدّي فيه امرأة مقاطع تمثيليّة، أو “تتدلّل” على الناظر إليها، أو تتجاوز خطاً أحمر، مقطعٌ تُهدَّد فيه أو تُوبّخ أو يُسخر منها، إنّما هذه المرّة، بمقاطع مُستعارة من شأنها أن تُبعِد عن صاحب الحساب الساخر أو الموبِّخ شبهةَ التورّط بالتطبيع مع العنف. فليس هو من اخترعها أصلاً. هو فقط استعارها من مسلسل “ضيعة ضايعة” أو “باب الحارة”.
هذا تحديداً ما يجعل من “تيك توك” وسيلة تنمّر “ذكية” بأيدي مستخدميها. فهي تسمح لهم بالتحايل على التطبيع المباشر مع السلوك المعادي للنساء بتآمرهم الخفي مع التطبيع المُستعار، والطريف.