مرّت عشرة أيام تقريباً ولم تتغيّر وطأة القصة، لم تأفل في حزن الأصحاب والأحباب والأهل. مرّت عشرة أيام، وبالأمس وصلني فيديو من أصدقاء في فرنسا، أحيوا الذكرى لموقفٍ سياسي وحزنٍ شخصي وألفة تضامنية عابرة للقارات. شاهدت فيديوهات من كندا، بيروت، فرنسا، حيفا، هولندا… هذه فقط التي وقعت في حضني.
لم يأفل وقع خبر انتحار سارة، ولا طوي على قصة حياتها. حدثٌ عام، وقع على رقعة جسمٍ خاص. وهو يجسّد وقْع السياسة العريضة على الفرد، نفسياً وعضوياً، من الاكتئاب إلى أمراض القلب. لم يُنفَ موتها في الخاص، نتيجة قرار الانتحار. لم تتمكن السلطات المجتمعية من تكريس اكتئاب سارة للدلالة على “هشاشة فردية” وحدها تبرر الانتحار. هذه كانت أداة المجتمع المعتادة في تبرئة العنف المنظّم من المسؤولية عن ظلمٍ أصاب الفرد حتى قتله. كان مريضاً فمات في السجن، لا علاقة لموته بظلم القضاء، فداحة الزنازين أو التعنّت في رفض العلاج. وسارة، انتحرت لأن “مرضها” – أكان المثلية، الجهر بها أو الاكتئاب – قادها إلى إلغاء الذات. هكذا تبريرات كانت تقوى على نفي المسؤولية العامة للجريمة في السردية المهيمنة، يخرسونها عبر توصيفها كحادثة فردية. لكن عشرة أيام مرّت وقصة موت سارة لم تأفل ولا نفيت هناك، حيث الجريمة مباحة.
لحظة إعلان الوفاة أشعلت حرباً لم يخترها ناس سارة وإنما فُرضت عليهم مثلما فُرض الظلم عليها، فلم يتلكأوا في خوضها. حجم قرارها، الرسالة الأخيرة واستفحال الظلم جعلت من المستحيل الصمت، الغرق في الحزن، ولعن العجز والظلم معاً. فكانت مواجهة واتسعت رقعتها خارج أماكنها المعتادة، إن جغرافياً أو مجتمعياً. هناك شيءٌ ما في ظهور سارة جعل التأجيل مستحيلاً وإشهار موقف صريح ملحّاً.
جبهاتٌ تشكّلت لا بالضرورة لتشابهها وإنما لالتقائها على الحق بالاختيار. وفي الرقع غير المعتادة أبداً، ظهر دار الإفتاء المصري بآياتٍ قرآنية نشرها على مواقع التواصل توحي بضرورة وقف التهجّم على سارة واحترام اللحظة. رد الفعل على هذه الآيات أتى تعليقاتٍ غاضبةً بلغةٍ تدّعي القوامة الأخلاقية حتى على القرآن. يُفهمونه دينه.
في هذه المعركة، قفز الهجوم إذاً فوق ادعائه الأخلاقي الديني لينزل على رأس الخصم بساعده العنفي. أخذ المجتمع العنفي المسألة “بدراعه”. لم يعبّروا عن رد فعل محافظ، وإنما خرجوا في حرب. فقطعة القماش الملونة تلك لم تكن مجرد قطعة قماش.
هذا الظهور الشرس للمجتمع العنفي أتى صريحاً ليجيب على ظهور سارة وعلمها الملوّن.

سارة ظهرت في رقعٍ أوسع مما اختارته لحياتها في تلك اللحظة لما صارت الصورة الشهيرة، البهيّة، جرماً. يومها، أجبرت على الظهور. هي اختارت الارتفاع بعلمٍ فوق كتفين لا أكثر. وبالكاد علت، حتى امتدت اليد الإلغائية المانعة لتقبض على عنقها وتلقيها أرضاً. واليد لم تتوقف عند إنزالها أو تمزيق علمها. اليد امتدت أكثر وصادرت جسمها، وضعته في قفص، ولم تكتف فاخترقته، انتهكته، ولم تشبع فزرعت أذنها بالشتائم ولاحقت النفس الذي تلتقطه.
هذه اليد اتُهم العسكر والنظام بها. ولكن الجماعة، المجتمع العميق، تمتلك أيضاً الكثير من شرايينها. بيدٍ عسكرية سياسية اجتماعية، سعت الجماعة لإلغاء الفرد وأثر وجوده.
المنظومة المتسلطة على الفرد لم تبدأ اليوم، وقد استتب المجتمع تحتها، يقمع بيده كل تمرّدٍ لضمان استتبابها على الجميع. مبرر الظلم هو “المساواة” في سكبه على الرؤوس. ولدى المجتمع الكثير ليدافع عنه. كم من الخسائر والجرائم وقعت على مرّ الزمن منعاً لأي خيار حرّ أو اختلاف؟ كم من زوجة ضربت، ابنة نُكرت، سحلوه في الشارع، طردوه من البيت، طلقوها من زوجها… كلّ خروجٍ عن الأشكال والأدوار التي تمليها المنظومة الاجتماعية المهيمنة، تم عقابه.
هذه “العقوبات” المتراكمة تصبح كلها معرّفة كجرائم موصوفة كان يجب تفاديها، لو تمتلك اليوم سارة حقها بالوجود وتنتصر قصتها على النفي من السردية الحاكمة. فالسردية تبقي الجميع متماسكين، وتسري على الجميع. لا اختيار في السردية. لا معارضة لها. نتحد فقط إن “تساوينا” في انعدام الاختلاف. استثناءٌ بحجم سارة وعلى هذا القدر من العلانية يهدّد السردية.
سارة وُضعت تحت مجهر القصاص، ومنذ تلك اللحظة حملت جرحها واستقامت. تحمّلت مسؤوليتها واعيةً لكافة تفاصيلها، من الكابوس إلى الضحكة العفويّة، من الهوية السياسية الشيوعية إلى الدرّاجة الهوائية وأم كلثوم. ضربت جذورها بالأرض وكتبت عن مستويات ما تعيشه. فنّدته.
دارت حرب إلغاء ضد سارة، فأنهتها هي بنقطةٍ على السطر
وفي رسالتها الأخيرة، فعلت ذلك أيضاً. وفعلت أكثر. امتلكت خبر رحيلها، وجعلت من المستحيل نفيه في البنية الشخصية “الهشّة”. ربطت الاكتئاب بالجريمة والوطأة والقياس الفعلي للقوى. وكما فعل القافزون من نوافذ البرجين في 11 ايلول 2001، فعلت. قرّروا امتلاك لحظة موتهم فاختاروها قفزاً بعدما فُرضت عليهم حرقاً. استملكوا خياراً في اعتداءٍ هدفَ إلغاءه. تملّكوه في صلب انعدامه، وهكذا يبدو لي أن سارة فعلت. أنهت سلطةً عليها، واخترقت برحيلها دائرة عنفٍ مقفلة.

في ساحة المعركة التي تلت انتشار خبر وفاة سارة، جُنّت الجماعة لأن الفرد خطف حقه بالاختيار فجأة وامتلك الصوت الذي يخبر نهاية القصة. منذ لحظة الظهور الأولى، كان هدف السلطات والجماعة إلغاء هذا الحق من أساسه، أكان الاختلاف جنسياً، سياسياً أو تعبيرياً. دارت حرب إلغاء ضد سارة، فأنهتها هي بنقطةٍ على السطر. أصيب مجتمع القوامة في سطوته، فعلا زعيقه. استشرس العنف بلا ادعاءات طهارة لإلغاء إرثٍ يهدّده. وسيثقل العنف الواقِع على مجتمع الميم في مصر انتقاماً من لحظة الظهور هذه. فعقاب الظهور، الإشهار، يكاد يكون أفدح من عقاب المثلية، الشيوعية والتعذيب.
التروما، علمياً، تتنفس في الجسم لما يخرج الفرد من مكان حدوثها. نصرّ على تمالك النفْس قدر المستطاع داخل المكان الخطر، لأن الخطر قد يتكرر في أي لحظة. ما أن نخرج بجسمنا من المكان، تبدأ التروما بالتنفس خارج قوقعتها. تتنفس عبر الأحلام، الصور المفاجئة من الحدث، نوباتٌ من فقدان السيطرة على النفس، التأهب الدائم، كلها تقود نحو فقدان الثقة بإمكانية الخروج من هذه الأزمة، من هذه الصور، من هذه الأحلام، من هذا التأهب. لا تتحوّل الأحداث الصادمة إلى ذكريات، تستمر في وعينا حاضراً موازياً. تصبح التروما مكان إقامة الفرد، أينما حلّ. وبذلك، تكون السلطة التي اجتاحت الجسد قد تفوقت بشكلٍ ما على قوارب النجاة.
رسالة سارة أوضحت ذلك بهدوءٍ شديد، وأعلنت أنها ستنهي هذه السلطة عليها.
حاولت التعايش معها ولم تقدر، وهي سلطة هدفها الإلغاء، فكيف كانت لتقدر؟
بعد الوفاة، صارت خارج المكان وفي صلبه معاً. ما عادت منفيةً في كندا، عادت قصتها إلى صلب مصر، ولكن بلا جسد يُعاقَب ويُستباح. سلبت العدو قوته عليها، وملأت مساحات الكلام، ولو أن الدائرة لا تزال مقفلة على الأرض.
قصة سارة أكّدت أن حياة الفرد مستحيلة في منظومةٍ يُفقدِها حق الاختيار رشدها. وقد أبلغت سارة المجتمع العريض أن الفرد الذي يختار الحرية لن يرتاح إليها في بلادنا إلا بموته، وقد لا يجدها إلا مختبئةً في زاوية الروح الأخيرة. هذا هو حجم الحصار، ولذلك هي حربٌ لا مفر منها.