“قبل بضعة أشهر، وبعد سوء تفاهم مع شريكي، هدّدني بنشر فيديو لنا معاً، كنت أجهل وجوده. استغل خوفي وقهري، وعذبني نفسياً. كانت أسوأ فترة مررت بها في حياتي. كان يتوعدني دائماً بنشر الفيديو إذا فكرت بهجرانه، وفسخ علاقتي به. لم أستطع رفع شكوى ضده خوفاً منه، ومن العائلة. لازلت أحتفظ بكلّ المحادثات، ولست أدري ما العمل. ساعدوني من فضلكم”.
هذه واحدة من مئات الرسائل التي تصل يومياً إلى حساب “ديها_فراسك” المغربي. تعني “ديها فراسك” بالدارجة المغربية حرفياً: “اهتم بشؤونك”. أُنشئت الصفحة عقب انتشار حسابات على إنستغرام تنشر صوراً وفيديوهات لفتيات مغربيات، أغلبهن قاصرات، لم تتجاوز أعمارهن 18 سنة، في وضعيات حميمية. كان هدف تلك الحسابات التشهير بالفتيات، وحث المتابعين على سبّهن وإيصال صورهن لعائلاتهن بغية “محاربة الفاحشة ونشر العِفّة في المجتمع”.
تخبرنا هدى، واحدة من مؤسسي حركة “ديها فراسك”: “خلال شهر رمضان، بدأت تصلني رسائل على حسابي الشخصي، لفتيات يطلبن المساعدة، بعد نشر صورهن الشخصية على مجموعة من حسابات التشهير على إنستغرام. لجأن لي لأنّي أهتم بالقضايا النسوية، وأدافع بشكل علني عن حريات وحقوق المرأة. في أول الأمر طلبت من متابعيّ التبليغ عن الحسابات، وبالفعل حظرها إنستغرام بعد مدّة وجيزة. بدا لنا أن الخطة نجحت، لكن سرعان ما ظهرت حسابات مشابهة أخرى، وبأعداد كبيرة”.
قررت هدى التصدي لتلك الظاهرة بطريقتها، وأسست بالتعاون مع صوفيا ومحمد، حساباً على إنستغرام باسم “ديها فراسك”، وباشر نشاطه في 19 مايو الماضي. تقول: “أردنا مساعدة الفتيات على إيصال أصواتهن للسلطات المعنية وتحريك أقلام الصحافة لتنوير الرأي العام حول هذه الظاهرة، والدفع بالجميع للمشاركة في التصدي لمثل هذه الحسابات وحفظ حقوق الضحايا”.
النساء لسن الهدف الوحيد
في 13 أبريل الماضي، نشرت المغربية العابرة جنسياً صوفيا طالوني، فيديو عبر حسابها على إنستغرام، تدعو فيه النساء إلى إنشاء حسابات مزيفة على تطبيقات التعارف التي يستخدمها المثليون مثل Grindr، لكشف المثليين في محيطهن العائلي أو بين أصدقائهن.
تسبب الفيديو برفع اللثام عن خصوصيات أفراد كانوا يتكتمون عن ميولهم الجنسية. أدى الأمر إلى إنشاء مجموعات وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، “تفضح” هؤلاء، وتنشر صورهم ومعلوماتهم الخاصة بهدف التشهير بهم. تعرّض بعضهم للابتزاز والتهديد، ورضخوا لمطالب مبتزيهم خوفًا من “الفضيحة” و”وصمة العار”.
ما زاد الموقف تعقيداً، تزامن الحملة مع فترة الحجر المنزلي، فمن كُشِف أمره أمام عائلته لا يستطيع الفرار أو الخروج من المنزل. لا تزال المثلية الجنسية من “المحرمات” في المجتمع المغربي. وبحسل البند 489 من القانون الجنائي، يمكن أن تصل عقوبتها إلى ثلاث سنوات حبساW.
الحجر المنزلي والابتزاز الإلكتروني
بعد تفشي فيروس كورونا في العالم وإلزام الدول رعاياها بفترة من الحجر المنزلي، ظهرت موجة جديدة من جرائم العنف والابتزاز الإلكتروني تستهدف النساء والفتيات على مواقع التواصل الاجتماعي. 73 بالمئة من النساء في العالم، كنّ ضحايا لإحدى جرائم العنف الرقمي أو عايشنها.
في لبنان مثلًا، وحسب معطيات المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ارتفعت نسبة العنف الإلكتروني بحدود 184 بالمئة، في فترة العزل المنزلي. لهذا السبب، أطلقت منظمة “في-مايل” حملة وطنية بعنوان “الشاشة ما بتحمي” في شهر مايو الماضي، لحماية النساء وتوعيتهن حول الجرائم الإلكترونية، وتشمل التحرش الجنسي، والتشهير، والتهديد، والابتزاز الجنسي والمادي، والتنمر، وسرقة الحسابات الإلكترونية.

هدفت الحملة لمساعدة الضحايا على التبليغ عن الجرائم، وتقديم المتابعة النفسية والقانونية لهن. وجاء في بيان نشرته المنظمة على موقعها الرسمي: ”جعلت أزمة كوفيد – 19 الحالية من وسائل التواصل الاجتماعي الملاذ الوحيد لنا للتنفيس عن أنفسنا من خلال أنشطة متنوعة، ما جعل النساء والفتيات أكثر عرضة للتعنيف الإلكتروني في هذه الفترة من طرف معتدين ومتحرشين نشطين على مختلف المنصات الإلكترونية”.
لا يختلف الواقع في مصر كثيراً، عن المغرب ولبنان. ففي بداية الشهر الجاري، أصبحت قناة “نسوان المنصورة” على تطبيق تلغرام حديث الساعة في مصر. تجمع تلك القناة صور فتيات من مدينة المنصورة وتنشرها، بعد قرصنة هواتفهن وتحميل صورهن ومعلوماتهن الشخصية. لم تتوقف القناة هنا، بل التقط المشرف عليها (أو المشرفون)، صوراً لفتيات في الشارع في وضعيات معينة، واستخدموها في عمليات ابتزاز وتهديد.
على إثر هذه الواقعة، تلقت السلطات الأمنية المصرية شكاوى كثيرة حول القناة، ففتحت تحقيقاً. وحتى كتابة هذه السطور، لم تحدّد هويّة الشخص أو الأشخاص القائمين على تلك القناة.
ترى هدى، إحدى مؤسسي حركة “ديرها براسك”، أن الملل المصاحب للحجر المنزلي هو ما جعل الشباب يلجؤون إلى تلك الأفعال المشينة، واستهداف ضحايا يعتبرونهن “فرائس سهلة”، لا يجرأن على الإبلاغ عن العنف المُمارس ضدهم، خشية “الشوهة” (الفضيحة). تقول: “لا يزال البعض يظنون أنّهم يملكون الحق بالتشهير بمن لا يؤمنون بنفس معتقداتهم وأفكارهم وتهديدهم تحت غطاء “نبذ الفجور والحث على الفضيلة”. وما يجعلهم يتمادون أكثر في بطشهم هو جهل الضحايا من القاصرات للحقوق التي يوفرها لهن القانون”.
ما مصير ضحايا الابتزاز الإلكتروني؟
تعمل حركة “ديها فراسك” بالشراكة مع جمعية “تحدي للمساواة والمواطنة” من أجل متابعة الضحايا نفسياً، وملاحقة شكاويهن القضائية.
توفر الجمعية أطباء نفسيين مستعدين لمساعدة النساء والفتيات على تجاوز التبعات النفسية لما عايشنه، ومحاميين للاهتمام بالدعوى قضائياً ومحاكمة الجاني بما ينص عليه القانون المغربي.
تخبرنا هدى: “بما أن أغلب الضحايا قاصرات، فإنّهن يخشين اللجوء للقضاء، سواء لقلة المعرفة، أو خوفاً من العائلة. هناك من هي مهددة بالطرد من البيت، أو بالتوقيف عن الدراسة، وهناك من تخشى العنف الجسدي من طرف الأب أو الأخ خصوصاً في العائلات المحافظة. دورنا هو مساعدة هذه الشريحة التي تمثل الأغلبية على التواصل مع الجهات المعنية، ولو بالسرّ، تحت إشراف الجمعية”. وتضيف: “يجب أن تفهم النساء أن القانون يقف بجانبهن في جميع الأحوال، ولا داعي للخوف من أن ينقلب عليهن الأمر ويُتهمن بتكوين علاقات جنسية قبل الزواج”.
فبحسب الفصل 447/2 من القانون الجنائي المغربي، “يُعاقب بالحبس من سنة واحدة إلى ثلاث سنوات، وغرامة من ألفين إلى 20 ألف درهم، كل من قام بأي وسيلة بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية، ببث أو توزيع تركيبة مكونة من أقوال شخص أو صورته، بدون موافقته، أو قام ببث أو توزيع ادعاءات أو وقائع كاذبة، بقصد المس بالحياة للأشخاص أو التشهير بهم”.
ويسير قانون العقوبات اللبناني على نفس النهج، إذ تنص المادة 650 فيه على “معاقبة كل من هدد شخصاً بفضح أمره أو إفشائه أو الإخبار عنه، وكان من شأنه أن ينال من قدر هذا الشخص أو شرفه، أو من قدر أحد أقاربه، لكي يحمله على جلب منفعة غير مشروعة له أو لغيره، بالحبس من شهر إلى سنتين، وغرامة قد تصل إلى ستمائة ألف ليرة لبنانية. ويدخل ضمن تطبيق هذه المادة الابتزاز بالكومبيوتر أو باستعمال معلومات تم الحصول عليها بواسطة الكومبيوتر والأنظمة المعلوماتية”.
كذلك يجرّم قانون العقوبات المصري التهديد الإلكتروني من خلال ما تنص عليه المادة 428. إذ أنّ “كل من يقوم بالتهديد كلامياً أو كتابياً أو شفهياً أو سلوكياً بالاعتداء على جسد الآخر أو حريته أو ممتلكاته أو مصدر رزقه أو سمعته أو خصوصيته، أو من يقوم بالتهديد بنشر أو الامتناع عن نشر مادة تتعلق بترويع شخص من أجل أن يقوم الشخص بفعل ما أو الامتناع عن فعل ما، فإن العقوبة القصوى التي ينص عليها القانون هي 7 سنوات سجناً وفيما لو نفذ المتهم التهديد فعلياً فإن العقوبة القصوى تصل إلى 9 سنوات سجناً فعلياً”.
الأمر سيان في دول عربية أخرى كالإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت، لكن تبقى المشكلة الكبرى التي تحاول الجمعيات المحلية التصدي لها، هي جهل النساء والفتيات بتلك القوانين. في معظم الحالات يرجع صمت المرأة إلى الخوف من اعتبارها المخطئة ومعاقبتها ولومها بدل الجاني، أو إلى انعدام الثقة في العدالة وأجهزتها. في حين أن المحامين وأصحاب الاختصاص يؤكدون أن القانون يحمي الضحية في جميع الحالات، حتى وإن كانت هي الأخرى مخطئة، ويولي أهمية كبيرة للجرائم الإلكترونية التي أصبحت في تزايد مستمر يوماً بعد يوم.
بلغة الأرقام، وحسب نتائج بحث بعنوان “العنف بواسطة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ضد النساء في المغرب“، أنجزته منظمة “مرا”، فإنّ 10 بالمئة فقط من النساء اللواتي كنّ ضحية لإحدى الجرائم الإلكترونية، أبلغن عن المعتدي إلى السلطات العامة. وتعزي الدراسة سبب صمت الضحايا إلى الخوف من السيطرة، وفرض قيود على تحركاتهن وأنشطتهن من طرف العائلة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالقاصرات اللواتي لم يحصلن على استقلالهن المادي بعد.
العائلة… سند أم سبب للصمت؟
تحكي لنا مريم (اسم مستعار -18 عاماً)، وهي لبنانية وتقطن في المغرب، أن قصتها بدأت بالتنمر من قبل مجموعة فتيات، وصل بهن الأمر إلى ملاحقتها وضربها أمام باب منزلها.
اتخذت مريم بعد ذلك الإجراءات القانونية الضرورية بمساعدة أمها وظنت لفترة أن القضية قد أغلقت. لكن في منتصف شهر رمضان الماضي، فوجئت بصورها وفيديوهاتها تجوب صفحات الفضائح على إنستغرام ما دعاها إلى التحرك وعدم البقاء ساكنة.
“بعت هاتفي من دون الانتباه إلى أنني لم أحذف كافة الصور من تطبيق سنابشات. لم تكن الصور ذات إيحاءات جنسية البتة، بل كنت فيها بملابس السباحة وأستمتع بوقتي على الشاطئ. لأتفاجأ لاحقاً بنفس تلك الصور على مجموعة من حسابات إنستغرام، مع معلوماتي الشخصية. كان هاتفي لا يتوقف عن الرنين والتعليقات تزداد يوماً بعد يوم، من أشخاص يسبونني ويصفوني بـ’العاهرة‘”.
“لم أقو على تحمل الضغط النفسي وحدي، فقررت مصارحة أمي بالواقعة. لقد ساندتني كثيراً ورافقتني في كلّ مراحل رفع الدعوى ضد هؤلاء الأشخاص. لكن للأسف حذفت الحسابات بعد فترة قصيرة، ولم تتمكن الشرطة من تعقب آثار الجناة وتحديد هوياتهم”.
تخبرنا مريم: “لم أعر اهتماماً للتهديدات التي وصلتني. أنا فتاة وأتحمل مسؤولية جميع تصرفاتي وقراراتي ولا يحق لأي كان التحكم في كيفية استعمالي لوسائل التواصل الاجتماعي”.
والدا مريم مطلقان، وتعيش حالياً مع والدتها التي تعتبرها مثل صديقتها، وتخبرها بكلّ شيء. “أنا ممتنة جداً لهذا الأمر لأنني أعي أن الكثير من الضحايا لا يتمتعن بهذا الحق ويعانين في صمت خوفاً من العائلة والمجتمع”.
إن كانت مريم قد تلقت الدعم النفسي والمعنوي الكافي من والدتها، فإن الكثير من الفتيات الأخريات لا يزلن يعانين الأمرين بين مبتز لا ينفك يتمادى في طغيانه، وبين عائلة تحمِّل الضحية كامل المسؤولية وتتخذ إجراءات قاسية بحقها، “حفاظًا عن الشرف”.
تحكي حفصة (اسم مستعار، 22 عاماً): “قرصن حسابي الشخصي على فايسبوك، ومنذ ذلك اليوم تحولت حياتي إلى جحيم. أجهل هوية الفاعل، لكنه تمكن من وضع يده على ملفات وصور ومحادثات خاصة، ويهددني بنشرها وإرسالها إلى أصدقائي وعائلتي. أعلم أن هذا أمر غير قانوني ولدي الحق برفع دعوى ضده، لكنني لا أزال طالبة ومعتمدة بشكل كلي على عائلتي المحافظة التي تستطيع حرماني من إكمال تعليمي والتصرف بحزم معي إذا وصلتها تلك المعلومات”.
ينوي مؤسسو حركة “ديها فراسك” توسيع رقعة العمل واستهداف الأهل وأولياء الأمور من خلال إنشاء صفحة على فايسبوك. تقول هدى: “بدأنا عملنا على إنستغرام، لأنها المنصة الأكثر استخداماً من قبل الشباب والمراهقين، لكننا ننوي الآن استهداف الأهل وتوعيتهم على مخاطر الابتزاز والتهديد الإلكتروني، وكيف يؤثر على أبنائهم وبناتهم. ولأننا نعلم أن هذه الشريحة نشيطة على فيسبوك خصوصاً، فإننا سننشئ قريباً صفحة للتواصل مع من هم أكبر سنّاً”.