كتابة: إيمان عمارة
بينما كنت أتصفح الإنترنت وجدت صدفة سؤالًا لرجل يرد على تعليق فتاة قائلًا: “لماذا تقبلين الخروج مع رجال عبر تطبيقات المواعدة بينما ترفضين الخطوبة؟”. ضحكت كثيرًا، وتوقعت، لا بل كنت متأكدة، أن من طرحه يمزح. لا أحب أن تخيب توقعاتي، لكنه كان جادًّا في سؤاله، مثل الكثيرين غيره.
وجدت صعوبة كبيرة في الرد لأنني، في البداية على الأقل، لم أفهم السؤال الذي بدى لي من نوعية هل البحر أوسع أم الطائرة أسرع؟ لا أريد أن أقدم تبريرًا لأحد فيما يخص ممارسات اختارت النساء انتهاجها دون غيرها، ولا أرغب في إقناع من يرون أنها حرام أو عيب أو غير لائقة. لكن، سأحاول تحليل الظاهرة الناشئة بعدسة نسوية.
تعتمد تطبيقات المواعدة على العرض، عرض الصور والمعلومات الأولية، وعرض الرجال المتاحين لنختار ما يناسبنا ويعجبنا قبل عملية الفرز النهائية بعد المحادثات وربما المقابلات. نتصفح التطبيقات مثلما نتسوّق لشراء ملابس: نتفرّج على الصور المعروضة، نختار القطع حسب ألوانها وقصّاتها، نضعها في السلة وندفع.
وعند الاستلام، نجرّبها لنرى إن كانت مريحة وتليق علينا. بسبب هذا التشابه في النمط الاستهلاكي، اختار مصممو التطبيق الفرنسي “تبّني رجلًا” (adopte un mec) شعار امرأة تضع رجلًا في عربة تسوّق.
مهما كان موقفنا تجاه هذا التسليع، لا بد من الاعتراف بوجوده إن أردنا أن نكون واقعيين، خاصة وأنّ سوق العلاقات الإنسانية ليس اختراعًا جديدًا مرتبطًا بمواقع التواصل والإنترنت، كل ما في الأمر أن الوسائط اختلفت بسبب تغيّر نمط حياتنا.
فالحب، كما ترسمه الفنون المختلفة، نادرًا ما كان محركًا للإرتباط أو الزواج في تاريخ البشرية، بل البحث عن الشريكة المناسبة. الشريكة وليس الشريك، لأنه في غالبية الثقافات، الرجل، بنفسه أو ممثلًّا في أهله، هو من يبادر ويختار ويتقدّم بطلبه، وهو أيضًا من يحدّد مواصفات الزوجة المثالية والفتاة المرغوبة وما يجب أن تكون عليه شكلًا ومضمونًا.
لا نمتلك، كما هو متوقع، إحصائيات دقيقة تخص عدد مستخدمي ومستخدمات تطبيقات المواعدة في منطقة شمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا، إلا أنها تلقى رواجًا لا بأس به في أوساط النساء الراغبات في الارتباط والمواعدة، وكلمة السر هي الاختيار.
تمنحنا تطبيقات المواعدة ومواقع التواصل الاجتماعي رفاهية الاختيار والمفاضلة التي تحرمنا منها المنظومة التقليدية للارتباط، لكوننا نساء. في مجتمعاتنا، لا تزال مؤسسة الزواج هي الأقوى والأوسع انتشارًا، ولازال الارتباط الرسمي، المعترف به شرعًا وقانونًا، والمار عبر شبكة تصفية الأسرة، هو الهدف النهائي والأوحد وإن راجت أشكال العلاقات الأخرى بين الجنسين. يحتّم هذا الوضع علينا، كنساء، أن ننتظر كي يأتي أحدهم ويقرر دخول البيت من بابه، إن رغبنا في انتظار الحلال الأجمل.
لا تتيح المجتمعات المحافظة للفتيات فرصًا كثيرة للتعرف على شباب أو الدخول في علاقات وتجارب عاطفية أو/و جسدية، فكل ما يخص الجنسانية والجسد محاط بأسلاك شائكة من العادات والتقاليد والعيب والحرام والتهديدات بالحبس والمنع من الدراسة والقتل وغيرها من الممارسات “الاعتيادية” عندنا. لكن، رغم التضييقات، تحاول النساء دائمًا التحايل على المحظور وممارسة حقهنّ في الحصول على الحب والجنس في الخفاء.
على عكس فترة الخطوبة والتعارف التقليدي بين العائلتين والسؤال عن الأصل والفصل والمُرّتب والصلاة والصوم والسلالة وأسرار الأجداد وخبايا النفوس، توّفر تطبيقات المواعدة فرصة جيّدة للتعرف على رجال في سرية شبه تامة، حيث تستطيع النساء التحكم في قدر المعلومات التي يرغبن في مشاركتها مع الآخرين.
غالبية تطبيقات المواعدة تسمح بإنشاء حساب دون ذكر الاسم الحقيقي أو وضع صورة شخصية حتى، مما يعزز الشعور بالأمان، في البدايات على الأقل، ويقلل من مخاطر الابتزاز أو معرفة الأهل وتبعاتهما على حياة النساء.
هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، فتفضّل بعض النساء الدخول في علاقات عبر شاشة الهاتف يشكّلها طرفان فقط لا غير، حتى وإن كان الهدف في الأخير هو الزواج، فالتعارف هنا يتم بحرية أكبر بعيدًا عن سلطة الأهل وتدخلاتهم وضغوطاتهم ومراقبتهم وإبداء رأيهم وإملاء شروطهم كما يحدث عادًة في الخطوبة سواء كانت عن حب أو صالونات.
لا يستقيم الاختيار الحقيقي من دون تعدّد العلاقات وتنوّع التجارب. ربما كان هذا أهم أسباب تفوق تيندر وإخوته على الخطوبة، فهو يفتح المجال على مصراعيه لمواعدة عدد معين من الرجال، يقل أو يزيد، بعيدًا عن الدوائر التي تعرفنا ولن تدّخر جهدًا في تشويه سمعتنا التي تُعتبر رأسمالنا في المجتمعات التقليدية وتحدّد فرص الزواج ونوعيتها لنا.
فحتى مع خروج النساء بكثافة للدراسة والعمل والاختلاط بزملاء الدراسة والمكتب بعيدًا عن أعين الأهل، إلا أنه من الصعب الدخول في علاقات مع جميع من نالوا إعجابنا منهم، فالعيون والألسنة تترّصد الزلّات والأخطاء، والمسميّات جاهزة.
أما لو اقتنعتِ بكلام والدتك بأن تقابلي واحدًا من الخُطّاب الواقفين طوابير أمام بيتكم، ثم وافقتِ على خطوبة دون كتب كتاب أو قراءة فاتحة، فقط كي يتمكن من الدخول والخروج تحت غطاء شرعي أمام الجيران ولتتمكني من التعرّف عليه والتعوّد على شخصيته، فمبروك، وقعتِ في الفخ المجهز لك مسبقًا، دخول الحمام لا يشبه الخروج منه أبدًا، وفسخ الخطوبة يتطلّب منكِ سرد أسباب مقنعة، ليس بالنسبة لك فقط لكن بالنسبة لأهلك الذين سيبدؤون في التململ بعد ثاني عريس.
أما تكرار فسخ الخطوبة بعد إعلانها وإشهارها على رؤوس الأشهاد فسيضعكِ في مرمى سهام الوصم التي ستقضي على كل آمالك في حمل لقب مدام، فقطعًا هناك ما يجعل العرسان يهربون منك ويركضون بعيدًا عنك.
هذه هي، بصفة عامة، الأسباب التي تذكرها النساء عادة لتبرير لجوئهنّ لتطبيقات المواعدة. لكن هناك مآرب أخرى يضطررن لإخفائها، رغم أنها لا تقل شرعية. هناك من تختار التطبيقات لممارسة الجنس مع رجل لا يعرفها وربما لن تراه مرة أخرى. طبعًا لو استعاضت عن ذلك بفقرة الخطوبة، فلا نستطيع سوى تخيّل وجه العريس عندما تخبره برغبتها، هو من جاء لبيت عائلة محترمة يطلب أمًّا لأبنائه وحرمًا مصونًا تتشرّف بحمل اسمه. وهناك من تريد فقط التعرف على رجال والخروج معهم وقضاء وقت ممتع بصحبتهم، فقط لا غير.
وقد تكتفي بعضهن بمجرد الدردشة الإلكترونية لتبدد أشباح الوحدة والملل وتخفف أعباء حياة قاسية لا تحفل كثيرًا بحاجاتنا العاطفية ولا تتنازل لنا عن وقت كاف لخلق تواصل على أرض الواقع.
وهناك أيضًا من تستمتع بالغواية وإعجاب رجال كثر بها، وتلك التي تنتشي بقلب موازين العلاقات كما نعرفها وتقف وسط سوق الرجال المفتوح على هاتفها، لتكرّر ما فعله الرجال بالنساء على مرّ التاريخ فتعاينهم وتقيّمهم وتفرزهم وتستخدمهم كسلع استهلاكية معلبة جاهزة للاستخدام السريع ثم تتخلّص منها بنفس السرعة.
يمكنك قراءة هذه المقالة باللغة الإنجليزية من هنا.