نحاول أن نركّب جملة مفهومة ونعجز. عقلنا مشتت. نعجز عن إتمام المهام اليومية البسيطة. نكره شركاءنا وأفراد أسرتنا. اكتشفنا فجأة أنّ قضاء وقت طويل معهم يحرق أعصابنا.
في العزل نشعر بوطأة الوقت أكثر. نتذكّر أحلاماً قديمة لم نحققها. ننتظر. نشتاق مساحتنا الخاصة، أعمالنا، نمط حياتنا. نفتقد أشياءنا الصغيرة: الشرود خلف عربة التبضع في السوبرماركت، احتضان الأصدقاء وأفراد العائلة، لمس وجوهنا من دون قلق. نسينا كيف تكون رائحة اليدين من دون آثار معقمات.
ليس غريباً أن يستخدم علماء النفس في مقاربة ما نعيشه اليوم معجم الصدمات والكوارث الطبيعية والحروب. الفرق هنا، أنّنا لا نستطيع تقدير المدى المحتمل لامتداد تأثير وباء كورونا. إنّه تروما ممتدّة، بين حبس منزلي إلزامي، وانهيار اقتصادي، وقلق صحّي، وترقّب الإجابات الطبية والمخبرية عن لقاح أو علاج يحرّرنا.
حين يتعلّق الأمر بانعكاس الوباء على صحتنا النفسية وسلوكنا، لا يملك العلماء أجوبة كثيرة أيضاً. لماذا يتعمد بعض الناس نقل العدوى؟ لماذا تسجّل خدمات التوصيل والمطاعم حول العالم كرماً زائداً في منح الإكراميات؟ هل سنستطيع العودة إلى حياتنا الطبيعية بعد الحجر، وتبادل السلام من دون خوف؟ هل سنستعيد قدرتنا على التركيز؟ كلها أسئلة عالقة.
الدماغ البدائي يتسلّم الدفّة
في دماغنا مناطق عدّة تهتمّ بانفعالاتنا، وأحاسيسنا، وذاكرتنا، وغيرها من الوظائف. القشرة الجبهية الأمامية في دماغ الإنسان، هي المسؤولة عن الوظائف العليا، مثل التفكير النقدي، ولجم الدوافع الغريزية، والقدرة على التركيز.
تقول أستاذة علم الاعصاب آمي ارنتسن إنّ تلك المنطقة تضعف حين نشعر بالتوتر أو الخطر. تحت تأثير هرمونات التوتر، يتسلّم الدماغ البدائي الدفّة، أي الجهة الخلفية من المخ، وهي المسؤولة عن ردود الفعل السريعة والغرائزية، مثل التراجع عن عبور الشارع عند سماع زمّور سيارة، أو التشبّث بالحائط المجاور إن اختلّ توازننا.
حين نواجه خطراً فيزيائياً مباشراً، تتيح القشرة الجبهية الأمامية مجال العمل للدماغ البدائي، تمنحه السلطة على أفعالنا. أي أننا حين نكون تحت الضغط، لا نكون قادرين على التفكير الذكي المعمّق.
ما يحصل في وقت من الضغط الممتد كما هي الحالة الآن، أنّ قدرتنا على التركيز تتشتت. لأن دماغنا الذكي ينوء تحت وطأة خطر لا يفهمه بالكامل. هكذا يستلم دماغنا البدائي قمرة القيادة، وهو ما يجعلنا نواجه صعوبة في التفكير والتركيز والقراءة والعمل.
دماغنا يقدر على فهم المعلومات بطريقة فعالة أكثر بوجود آخرين، كأنّ الجماعة تقوّي طاقته بطريقة ما
العزلة ليست من طبع فصيلتنا
يكتب الطبيب البريطاني ستيفن بلومنثال، في صحيفة “دايلي تلغراف” أنّ العزلة ليست من خصائصنا كفصيلة، ولا من طباعنا.
فنحن كما يقال “حيوانات اجتماعيّة”، وهذا يعني حرفياً أننا خلال مراحل تطورنا، وجّهتنا غريزة البقاء للتكاتف في مجموعات. رغم التطوّر، والقدرة على الاستقلالية في وظائف حياتنا الأساسية، ما زالت تركيبتنا تميل نحو الجماعة.
أجبرت الجائحة الناس على القيام بعكس ما تعلمناه خلال كل مراحل تطورنا لكي نبقى. يشبّه عالم الأعصاب جيمس كون من جامعة فرجينيا طريقة تعامل دماغنا مع الضغط، بطريقة تعامل السمندل مع الخطر.
يبحث السمندل عن مكان بارد، مظلم، ورطب، لكي يعيش فيه، لأنه متكيف مع تلك البيئة، ويعرف أين يجد طعامه فيها. إن خرج إلى الشمس في يوم حار وجاف، ستستجيب منظومته العصبية للأمر على أنّه خطر، فيعود مسرعاً إلى مخبأه. المعضلة التي تواجهنا اليوم أننا نشبه ذلك السمندل خائر القوى في الشمس، لكننا لسنا قادرين على العودة إلى مخبأنا بسبب الفيروس.
يحتاج دماعنا إلى الجماعة (الأسرة، الأصدقاء، إلخ…) لتوسيع قدرته على حل المشاكل وترتيب المشاعر. ليس فقط لحاجة عاطفية، بل لسبب إجرائي لا ندركه، هو أن دماغنا يقدر على فهم المعلومات بطريقة فعالة أكثر بوجود آخرين، كأنّ الجماعة تقوّي طاقته بطريقة ما.
السبب أنّ الدماغ يبحث دوماً عن الوصول إلى النتيجة بجهد أقل، ووجود آخرين يساعده على تخفيف الجهد مهما كان الفعل.
ولكننا نحتاج للانسحاب أيضاً
ما يقلق علماء النفس اليوم ليس تبعات العزلة فقط، بل الآثار السلبية لظاهرة لم يسبق لهم أن درسوها بشكل كافٍ، وهي التواجد الإجباري مع ذات الأشخاص لوقت طويل، في مكان واحد، وضيّق.
يعرف الأطباء أن معدلات الطلاق تزيد، وتشير البيانات إلى ارتفاع في العنف المنزلي، ولكن لا مؤشر واضحاً يجعلهم يفهمون كيف نتفاعل كفصيلة نفسياً مع الوضع القائم حالياً.
بحسب بلومنثال، لا يوجد تصرفات متشابهة يمكن القياس عليها للمقارنة، فكلّ واحد يتعايش مع الأمر بطريقة مختلفة. هناك ناس تريد العزلة، وتشعرها بالراحة، آخرون بدأوا يشعرون بالضيق لاكتشافهم سمات لا تعجبهم بعائلاتهم.
برغم حاجتنا للحبّ واللمس والعناق والتواصل، هناك أيضاً حاجة موازية للانسحاب، والابتعاد عن الآخرين قليلاً، كي نقدر على إعادة ترتيب مشاعرنا. عندما نحرم من هذه المساحة، يصير من الصعب أن نرتّب عدّاد المشاعر، ويمكن أن نستسهل التعبير بانفعال، أو أن نفقد قدرتنا على التعاطف مع الآخرين.
الحاجة للمس والعناق
بحسب المعالجة النفسية لوسي بريسفورد، فإنّ اللمس جزء أساسي من حياتنا منذ بدايتها الأولى. فعندما نولد، تنقل لنا اللمسة الحبّ والعناية من دون كلمات.
تظهر دراسات أن اللمس يساعد على إفراز هرمون الاكسيتوسين، وهو هرمون السعادة الذي يساعد الأم والرضيع على التواصل، ويسمح أيضاً للثنائيات بالترابط في العلاقات العاطفية.
قد لا نشعر مباشرة باننا فقدنا شيئاً مهماً في حياتنا، لكن تراجع الاحتكاك وحتى السلام على الآخرين، يشعرنا مع الوقت بأننا عاجزون، وكأننا ضائعون، وناقصون.
يدرس جيمس كون تأثير مسك الأيدي على حياتنا، ويقول إن مجرد الإمساك بيد شخص نحبه، يعطينا ما يشبه مفعول الأدوية المسكنة على مركز الألم في الجسم. “قد تساعد الاتصالات عبر تطبيقات المحادثة على التواصل مع الآخرين”، كما يقول لـمجلة “نيويوركر”، لكنها تتطلّب من دماغنا بذل جهد أكبر”.
لذلك، فإنّ اللجوء إلى التكنولوجيا للحد من آثار التباعد الاجتماعي، سيسبب انعكاسات سلبية، لا نفهمها بالكامل اليوم. الأكيد أنّ العزلة والافتقاد للمس، تروما لا علاج لها في الوقت الحاضر، لأنّنا تطوّرنا كفصيلة على طلب مساعدة الآخرين حين نكون بخطر، وهذا غير متاح الآن.
الحلّ؟ العناق الافتراضي، العناية بالنفس، تمارين التنفس، تدليك الجسم بعد الحمام بالكريمات المرطبة… كل ما يعوّض حاسة اللمس لدينا عمّا تفتقده.
أحلام نهاية العالم
قد يبدو غريباً أنّ عدداً كبيراً من الناس باتوا يتشاركون أنماط منامات واحدة. لاحظت عالمة النفس الأميركية ديردري باريت نمطاً مشابهاً في المنامات لدى الأميركيين بعد هجوم 11 أيلول.
تختصّ باريت بدراسة الأحلام خلال فترات الأزمات والكوارث، ومنذ بداية تفشي فيروس كورونا، تقود دراسة لتسجيل أنماط الأحلام المشتركة لدى شريحة من الأميركيين.
خلال الأسابيع الماضية، تحوّلت الدكتورة باريت إلى “نجمة” في وسائل الإعلام الأميركية، لأنّ الجميع كانوا يسألون السؤال ذاته: ما سبب هذه الأحلام الواضحة المستجدّة؟ ولماذا باتت مناماتنا غريبة في الحجر؟
يسجّل كثيرون حول العالم رؤيتهم لحشرات في المنام خلال هذه الفترة، إلى جانب موجات تسونامي، أو أيادٍ ضخمة تلاحقهم، وحتى عدم القدرة على التنفّس.
تقول باريت في حديث مع قناة “أن بي سي” إنّ السبب الرئيسي في الوضوح المستجدّ في المنامات، هو أنّ الناس باتت تنام لوقت أطول، وبالتالي، فإن الأغلبية صارت تصل إلى مرحلة النوم العميق، وهي المرحلة التي يفعّل دماغنا خلالها القدرة على رؤية الأحلام. هذا يعني أنّ العزلة أعادت لأجسادنا توازناً مفقوداً تحت وطأة الضغط وتسارع المواعيد والمهام.
بحسب ديردري باريت، فإنّ أيّ تحوّل كبير في حياتنا، يتزامن مع منامات أكثر وضوحاً وغرابة. ولأن الفيروس خطر غير مرئي، يلجأ دماغنا إلى الاستعارة للتعبير عن القلق أو الخوف، فيستبدل الارتباك من المرض، بمخاوف أخرى، مثل الحشرات، مشاهد العفن، أحلام الكوارث الطبيعية والعواصف، أو المخلوقات الغريبة.
لتفادي الكوابيس، تنصح باريت بالتفكير بمشاهد مريحة وأماكن نحبّها قبل النوم، ما يرفع من إمكانية رؤيتنا لها، كما بالحفاظ على معدل نوم صحّي.
بالتأكيد أثّر العزل على ساعات النوم، خاصة لدى الناس الذين يعانون من الأرق أو اضطراب القلق. والطريقة المثلى لنوم أفضل بحسب باريت، هي تفادي الشاشات قبل النوم، وعدم الاستحمام في وقت متأخر، لأن الجسم يحتاج إلى خفض حرارته قبل النوم. كما تنصح بعدم نقل العمل إلى السرير، بل الفصل بشكل واضح بين مكان العمل ومكان النوم.
ماذا نقول لمريض نفسي؟
قد يهدم البقاء في المنزل جهد سنوات بالنسبة لمن يعانون من وسواس قهري، أو من اضطراب غذائي. غسل اليدين طوال الوقت، قد يكون بالنسبة للبعض علّة كانوا يحاولون تجنبها. قراءة منشورات عن زيادة الوزن على مواقع التواصل طوال الوقت قد يزيد من الضغط على المصابين باضطرابات الطعام.
في هذه الحالة، قد لا يكون الخطاب التحفيزي والتشجيعي هو الحل، بل جزءاً من المشكلة. في مقابلة مع “لايت لايت شو” مع جيمس غوردن، يقول الفيلسوف البريطاني آلا دو بوتون، إنّ العزل حررنا من فكرة “تفويت الأشياء”، تفويت الحفلة، تفويت فرصة العمل، تفويت الإنجازات التي كان يمكن أن نحققها.
قد يكون الإقفال التام وتعطيل الاقتصاد وتعليق المشاريع كارثة فعلية، لكنه في المقابل أجبرنا على فرملة نمط حياة يفرض الإنتاجية كمعيار صحة ونجاح واحد.
الطريقة المثالية لعبور هذه الأزمة ليست بالبحث عن طرق أفضل لزيادة إنتاجيتنا وتركيزنا. الأسلم لصحتنا النفسية، أن نتقبل عبثية الحياة وعدم امتلاكنا سلطة على كلّ شيء في أوقات مماثلة
في نصّ حظي بانتشار واسع على مواقع التواصل، تكتب عالمة النفس المختصة بالتروما آلاء حجازي، عن انزعاجها لدى رؤيتها شعار على فايسبوك، يقول التالي: “إن لم تخرج من هذه الأزمة بمهارة جديدة، اعلم أنّ مشكلتك لم تكن الوقت، بل الالتزام”.
وأشارت حجازي إلى غضبها من نشر هذا النوع من الخطب التحفيزية، “لأننا نعيش تروما جماعية، كلّ ما في أعماقنا من حداد، وخسارة، وهلع، القلق على سبل عيشنا، على خسارة من نحبهم، ونظامنا العصبي يصارع للتأقلم مع الشعور بالخطر، والحاجة لليقظة، والأمان، والرغبة بالتناوب مع الشعور بالخدر والتجمد والتوقف عن الاستجابة لكل شيء.
يحاول الناس النجاة من الفقر، والخوف، وتجنب الصدمة، والتغلب على صعوبات أخرى، فيما يمتلك شخص ما الجرأة على اتهام آخر بعدم الانضباط لعدم تعلم مهارة جديدة”.
ترى حجازي إن هذا الهوس الثقافي بـ “الإنتاجية” [الرأسمالية] وقضاء الوقت دائماً بطريقة “”مثمرة” مثير للجنون. ما نحتاجه هو الشعور بالرحمة تجاه أنفسنا، وتقبل كلّ المشاعر الصعبة، والتركيز على طرق رقيقة لتهدئة أنفسنا ومن حولنا، عوضاً عن الجلد والشعور بالسوء حيال أنفسنا باسم “الدافع”.
برأي ألان دو بوتون، فإنّ الطريقة المثالية لعبور هذه الأزمة، ليست بالبحث عن طرق أفضل لزيادة إنتاجيتنا وتركيزنا. الأسلم لصحتنا النفسية، أن نتقبل عبثية الحياة، وعدم امتلاكنا سلطة على كلّ شيء في أوقات مماثلة. أن نتقبل هشاشتنا، وأننا أصغر من الصمود أمام المفاجآت، ونسامح أنفسنا.