عن شبح التقدم في السن الذي يلاحقني في منتصف العشرينات
زرت جارتي أمس وهي شابة عشرينية وأم لثلاثة أطفال تكبرني بعام واحد. بعد أن رحبت بي وبوالدتي وشقيقتي، فوجئت بدعواتها لأمي التي تضمنت عبارة “ربنا يفك عقدة وفاء”!
عقدتي هذه بالنسبة لها تعني عدم رغبتي في الزواج. وهي عقدة مذمومة بل وتبعث إلى الشفقة بالنسبة لسائر المجتمع…فقط لأنني في منتصف العشرينات ولم أتزوج ولست أماً لأطفال.
شعرت بضيق من العبارة ومللت أيضاً لأنها ليست المرة الأولى. أواجه هذا الموقف بشكل متكرر، حتى أنني أصبحت معقدة بنظر المحيطين بي لأني لم أجد شخصاً مناسباً للزواج أو لأني غير راغبة بذلك، وهذا ما أظنه الآن.
كفتاة تنتمي لمجتمع منغلق، أعيش معاناة كبيرة فقط لأني امرأة. فأنا أصارع لأتعلم، أقاتل لأخرج من المنزل وحدي، وأسعى لكي تكون لي مساحة خاصة أو حتى يتاح لي البقاء بمفردي في أي ركن في منزلنا دون أن أتأذى.
منذ تخرجي من الجامعة، أتوق إلى عيش حياة طبيعية أتحرر فيها من قيود حياتي وتحدياتها والصلاحيات المحدودة المعطاة لي. أن أهرب من أيام لا أقدر فيها أن أشرب كوب قهوة مع صديقة، ولا أن أتخذ قراراً من دون أن أستأذن رجلاً من عائلتي. فلا خروج لامرأة بمفردها في سياق كالذي أعيش فيه – بلا رجل – هذا طبعاً غير حقوقي الأخرى مثل الاستقلالية وارتداء ملابس تشبه ذوقي.
أخوض حرباً تلو الأخرى وأنتزع حقاً بعد آخر في ظروف متشددة وقاسية. ولا أصل بالسرعة المنشودة بل انتظر بفارغ الصبر تسلق خطوة وراء خطوة في سلم بحثي عن الحرية. لكن لا شيء يأتي بسهولة، وأحياناً أظن أن لا شيء سيأتي. تبقى الإشارات متضاربة ومشوشة، وتضيع سنوات عمري بينما أنتظر الخطوة التالية التي أظن أحياناً أنها لن تأتي. وأخشى فكرة أن تنتهي حياتي قبل أن أصل لما أصبو إليه.
في رأسي أسئلة متصارعة ترهقني: هل سأعيش الحياة التي أريدها؟ هل سأكون حرة؟ هل سأستقل؟ كم سيكلفني ذلك؟ هل سأكون حرة بعد فوات الأوان أم قبله؟ هل سأكون من أريد قبل الأربعين أم بعدها؟ هل سأستمتع بالحرية وأنا امرأة أربعينية؟ هل سأكون امرأة أربعينية حرة بلا زواج وأطفال أو سوف ينبذني المجتمع لأني فضلت الحرية على الزواج والأمومة؟
علامات استفهام كثيرة لا أعرف إجابتها. ربما أستكمل مسيرة نضالي وأصل إلى ما أريد حتى ولو وصلت منهكة. وربما يغلبني التشوش فأبقى أسيرة الإحباط والقلق على عمري الذي يضيع.
أتساءل كيف تمضي حياتي الحالية في ملل وفتور، وتمر أيام شبابي التي لن تعوض -والمفترض أنها الأجمل- في روتين مرهق. هل سيعوضني عنها أحد أو شيء؟ حياة بلا أصدقاء وسفر وإنجاز…بلا أي معنى حقيقي يرضيني.
هل سأكون مثل صديقاتي اللواتي خضعن للواقع وتزوجن بلا حب فقط بهدف إسكات ألسنة الناس وعيونهم؟ أم سأكون مثل فتيات أخريات حصلن على الفرص التي تمنينها إنما بعد أن فقدن الرغبة والشغف؟
أخاف من تقدمي في السن لأني أتغير، وقدرتي على النضال تتغير في كل عام. فأنا في أواسط العشرينات الآن. وبعد خمس سنوات، سأكون أقل حيوية وطاقة ورغبة في التمرد. وربما مع بطء إيقاع التغيير في حياتي أجدني منهكة غير قادرة على الاستمرار، فالفتاة التي خرقت قوانين المجتمع مرة وقالت لا، وتمردت على الكثير من القيود، غير قادرة على القتال طوال الوقت، خاصة مع الإنهاك النفسي الذي ينتج عن هذه الصدامات.
لا أعرف متى مر العمر بهذه السرعة، ولما يجب علي أن أطرح كل هذه الأسئلة بدلاً من أن أستمتع بالشباب الذي لن يعود، ببشرة نضرة وجسد ممشوق. لكني أعيش في مجتمع يدق نواقيس الخطر لأنه بعد أقل من ثلاث سنوات سأكون امرأة ثلاثينية غير مرغوب بها، فرصها في الزواج شبه معدومة، وسيعايرني العالم بالفرص (العرسان) التي ضيعتها من يدي. فربما لا أصل إلى أي طريق وأكون عالقة في المنتصف…لست الفتاة الحرة التي تعيش الحياة في مدينة تشبهها، ولا الأم التقليدية التي تربي أبناءها كما يريد المجتمع.
لو كنت في مجتمع مختلف أكثر احتراماً لإنسانيتي، يحترم قرارات المرأة ورغباتها في كل شيء، لما شعرت بكل هذا. خمس سنوات مرت على تخرجي من الجامعة، عملت فيها على سلمي الوظيفي وحياتي المهنية وعرفت ماذا أريد وكيف سأصل.
بالتزامن مع ذلك تخلل الأمر محاولات مستميتة للخروج من بيئتي المنغلقة.سافرت إلى القاهرة بعد حروب ضارية وأخذت أخطو سلم الحياة والحرية بدرجاته الوعرة، فسافرت في محافظات مصر المختلفة وخرجت من البلاد للمرة الأولى فتغيرت قناعاتي وأفكاري ووجدت أن ما أناضل لأجله يستحق.
بلاد ومجتمعات جميلة، أشخاص بعقول منفتحة، أكثر إنسانية وأقل سطوةعلى النساء، ومدن خالية من التحرش والعنف. أتخيل نفسي وما كنت سأفقد، لو كنت الفتاة التي يريدها المجتمع، امرأة متزوجة وأماً لأطفال عدة بلا أي تجارب في الحياة.
أخاف من التقدم في السن، ليس بسبب الوحدة والتجاعيد والشيخوخة، بل لأني أخشى ألا أعيش حياة تشبهني. كأن أخرج في نزهة وأمارس الرياضة وأخرج للتخييم مع أصدقائي، أخاف أن أموت دون أن أقول إني عشت وامتلأت بالحياة. وأنا الآن عاجزة حتى عن الاستمتاع بحياتي بشكلها الحالي.
لم أدرس اختصاصاً أحبه، ولم أعمل في مجال أحبه إلا بعد قتال. فهل سأجد نفسي مرغمة على القتال حتى لا أتزوج من رجل لا أحبه، كما أرغِمت أن أكون امرأة أخرى لا تشبهني؟
ألا يكفي كل هذا القتال وهذه النضالات من أجل حقوق بديهية وطبيعية؟ روحي منهكة ومتعبة من الطريق الطويل الذي يمكن أن يكون في النهاية بلا جدوى.
تستمر الأسئلة في الإلحاح علي وتؤرقني الحيرة، في كل مرة أرى فيها امرأة أخرى تحقق إنجازاً صعباً. وأتمتم لنفسي: كان من الممكن أن أفعل مثلها. لكن بعد أن أحاول وأدرك مدى صعوبة هذه الإنجازات، أشفق على نفسي من الخطوة التالية. وأظل أحلم وأقلق وأحزن على سنوات حياتي الضائعة ورؤيتي المشوشة لمستقبلي وعشريناتي التي عشت أغلبها في إطار يحصر قيمتي بالإنجاب فقط، إلى جانب أخ يرى أن حياتي كلها -مهما عَلت- لن تزيد عن كوني كائن أقل درجة منه…لأنه رجل ولأني امرأة.
أنا امرأة لا تنتمي، لا تشبه المكان الذي تعيش فيه، وكل ما حولها يدعوها للرحيل ومع ذلك فالأمر ليس سهلاً! أستيقظ من دوامتي لأقول للعالم مدى صعوبة أن أكون امرأة عربية طموحة تحب الحياة!
يمكنك قراءة هذه المقالة باللغة الإنجليزية من هنا.