“أنا بحاجةٍ إلى الله” جملةٌ قيل إنّها للراقصةِ اللّبنانيةِ داني بسترس، التي همَسَتْ بها لصَديقِها قبلَ إنهائِها حياتَها بأسايبع. قبلَ الرّصاصةِ القاضيةِ، ضائقةٌ مادّيةٌ كانت أطبَقتْ خِناقَها على داني إثرَ تراكُم الخساراتِ، وشكوى ضرْبٍ رفعَتْها ضّدَ حبيبٍ لكنّها سرعانَ ما سحَبتْها، وابنٌ سبَح قبلَها إلى الآخِرةِ غَرَقاً، عام ١٩٩٤.
أذكرُ كلَّ ذلك لأنَّ السابعَ والعشرينَ من كانونِ الأوّلَ ٢٠٢٢ يُصادِفُ مرورَ أربعٍ وعشرينَ عاماً على وفاةِ الرّاقصةِ البسترسيّةِ التّي تمرَّدتْ على بيئَتِها الأرُستقراطيّةِ غير المُرحِّبةِ أبداً بالرَّقصِ الشّرقي. أيضاً لأنَّ الّرقم سبعةٌ وعشرونَ يَعني ليَ الكثير، لا أدري لماذا؛ فذاكرتي اليومَ لمْ تعُدْ كما في السّابقِ، وهذا حديثٌ آخر.
أنطولوجيا الرّائدات
قبلَ داني، عشَراتُ الرّاقصاتِ تمرّدْنَ وتألّقْنَ وأبدَعْنَ، وكمٌّ قليلٌ كانتْ اللواتي نجوْنَ من ماضٍ أو مصيرٍ متعثِّرٍ، مِلؤُهُ الألمُ والفقرْ. فإذا ما نظرْنا فقَط إلى خرّيجاتِ “كازينو بديعة مصابني” -الّتي تعرَّضتْ هيَ نفسُها للاغتصابِ خلال طفولتِها- سنَرى شريطاً مُذهلاً لفُصولِ مُعاناةٍ نادراً ما كانَتْ تَعفي راقصةً من مخالبِها. منهنَّ مَنْ سرقَ بريقَهنَّ السّرطانُ في العَقدِ الرّابعِ من العُمرِ، كنعيمة عاكف، ومنهنَّ مَن كشفَ موتَهنَّ الجيرانُ لا لشيء سوى أنّ رائحةً كريهة انبعثت من الشقة المجاورة، كما حصل مع زينات علوي. جميع نجمات “الزمن الجميل” تقريباً، كنّ هربن من بيوتٍ تراجع فيها الجمال إفساحاً في المجال أمام القسوة. قسوة الأب، أو بطش الأخ، كما في حالة تحيّة كاريوكا.
كثيراتٌ مُتنَ من جرّاءِ الفقرِ أيضاً، هنَّ اللواتي جنَيْنَ مبالغَ وفيرةً لقاءَ أعمالهنَّ وإبداعاتِهنَّ، ليأتيَ بعضُ الأزواجِ أو الطلقاءِ أحياناً ليَستولوا على أملاكِهنّ. حتّى أنّ كازينو بديعة أقفلَ، لتَنتَقِلَ عميدةُ الرّقصِ من المسرحِ الاستعراضيِّ إلى تجارةِ الألبانِ والأجبان. وكمْ مِن راقصةٍ رائدةِ استسلمَتْ وهيَ تتأوّهُ من مرضٍ لم تستَطعْ تأمينَ ثمنِ علاجهِ … واللائحةُ تطولُ، لتُشكّلَ نوعاً من أنطولوجيا خاصّةٍ براقصاتٍ تمرّدنَ وانكَسرن. راقصاتٌ منَ الصّعبِ فصلُ هزّاتِ أردافِهنَّ عن أثمانِ ثوراتِهنّ.
كارينيه
“النار بتكشف المعدن .. راح نصفي .. تشوّهْت” قالَتْها كارينيه بعد عقودٍ من مُسلسلِ عذاباتِ “الزّمنِ الجميل”. فهيَ التي التهَمَتْ النارُ لحمَها، حرفيّاً، بينَما كانتْ في أوجِ عطائِها الفنّي خلالَ “زمنِ الإعمار”. وكارينيه يُمكنُ أن نُعرِّفَها بالرّاقصةِ اللُّبنانيةِ المُحترفةِ التي حاولَتْ النارُ إخمادَ جسدِها فأخمَدَتْها هيَ، حينَ انبعَثَتْ من جَديد.
عادةً ما ينبَعِثُ الرّقصُ من نُقطةٍ ما، نراها مركَّبةً من مَخطوطاتٍ قديمةٍ، أو ذرّاتِ اضطهادٍ عَشعَشتْ في ذاكرةِ الجسدِ، أو مِن شَبقٍ لا ترويهِ حميميّة. لكنْ نادراً ما كانَ يعودُ الرّقصُ وينبعثُ من حروقٍ حفَرَتْ ذِكراها على الجَسد. لكنْ كارينيه أثبتَتْ لنا أنَّ الأمرَ ممكنٌ، هيَ التي رحّبَتْ بنفسِها الراقصةِ بحفاوةٍ فورَ عودَتِها إليها منَ الحريقِ، رَغمَ هَولِه.
وبين الـ “أنا في العمق أشكرُ الله”، التي لفظتْها كارينيه إعلاناً لعودتها إلى الحياة، والــ “أنا بحاجة إلى الله”، التي لفظتْها داني إعلاناً لانطفائها، قلّة فرق. كالأسلاف، جُلّ ما قصدَتْه الاثنتان كان بحثاً جريئاً عن بصيص حياة داخل كومةٍ من الموت.
عادتْ إذاً كارينيه إلى فرَحِها وجُرحِها، وجْهَي العملةِ الواحدة. هممتُ بالتعرُّفِ عَليها، وكانَ لي شرفُ أنْ أرقُصَ معها مرّتين أو ثلاثاً
عامَ ٢٠١٤ أو٢٠١٥، لم أعُد أتذكّر. فذاكِرتي اليومَ لم تعدْ كما كانتْ في السّابقِ، وهذا حديث آخر
دلَّتني كارينيه على بضعِ حركاتٍ كان يصنُعها جِسمي بالطّريقةِ الخَطأ. أظنُّني لجأتُ إليها آنذاكَ لأُطلقَ شيئاً مِن نفسي في الهواءِ الطّلقِ، أي في عالمٍ جديدٍ لن يمتَلِكَهُ أحدٌ غيري. وقد حدَثَ ذلك يومَ فهمتُ من جلساتِ علاجيَ النّفسي -التي باءَت بالفَشلِ- أنّ جانباً من أنوثةٍ أُحاولُ ابتداعَها لذاتي ينتظرُ دقّةَ يدي على بابِه. تكرّمتُ عليهِ، وطرقْتُ، لكنّني لم أرَ باباً يُفتَحُ، وسريعاً ما فهمْت. فهمْتُ أنّه لا يُمكنُ أن أعوّلَ كثيراً على صورَتي في المرآةِ وأنا أرقُصُ حتّى أنجو. لا يُمكنُ أن أبقى صغيرةً إلى الأبدِ، عَليَّ أن أُلملِمَ نَفسي، وأتّكلَ حتّى على رُفاتِها.
لي جِسمٌ في هذا العالم
ثمّ أدرَكتُ مُشكِلَتي معَ عالمِ الأجسادِ والتّقنيات. يبدو أنّني غالباً ما كُنتُ ألتَمسُ نهايةَ المشهدِ حتّى أبدأَ من جديدٍ، فأهرَعُ إلى إقفالِه قبل إتمامِه. عمليّاً، عنَى ذلكَ لسنواتٍ أنّني واجهتُ صعوبةً في إكمالِ الفعلِ الرّاقص، من هزّةٍ عاليةٍ وأُخرى أدنى، وتموّجٍ قصيرٍ وآخرَ أطولَ، وانحناءةِ رأسٍ وانحناءةِ ظهرٍ، واستدارةٍ كاملةٍ واستدارةٍ نصفيّةٍ، ورعشةِ البائنةِ الصُغرى ورعشةِ البائنةِ الكُبرى … أو سمِّها ما شِئْت. جلّ ما أردتُه كانَ التهامَ كلِّ الحركاتِ والعواطفِ والتقاطِها في لَحظةٍ واحِدة. فالإطارُ كان واضِحاً في رأسي، لا ينقُصهُ سِوى الصّورةِ التي سأختَتِمُ بِها رِحلَتي.
ثمّ جاءَني التّحدي الأصعبُ، عليكِ توزيعُ الحركةِ الشّامِلةِ الواحِدةِ على عددِ الخَفقاتِ بدِقّةٍ بين صَدرٍ يتكوَّرُ ومِعدةٍ تتموّجُ ثمّ وركٌ يستجيبُ، ذهاباً وإياباً، ليَلجأَ خِتاماً إلى المؤخّرةِ ربّما، لإقفالَةٍ فَريدة. لا بُدَّ أنَّ الجسدَ الأوّلَ الذي اختَرعَ كلَّ ذلكَ أرادَ تعذيبي أنا شَخصياً وإشعاري أنَّ مَقولةَ “يا عجزي وبعدْني صبيّة” كُتِبَتْ لي، أنا التي أعيشُ مُعظمَ الأوقاتِ داخلَ رَأسي.
لكنَّ شيئاً ما جَعَلني أتَمسَّكُ بهذا الفنِّ الجِسمانيِّ، إنْ صحَّ التعبيرُ، معَ العلمِ أنّني لا أُسمّي نَفسي فنّانةً ولا أتَوخّى التسميةَ البتّة. لا وقتَ لديَّ لا لِأتفنّنَ ولا لِأتمرّنَ كما يَنبَغي. أتمسَّكُ بالرّقصِ لأنَّهُ يُذكِّرُني بِجسمي. وكأنَّهُ يقولُ لي: “لكِ جِسمٌ في هذا العالم”.
حينَ أنظرُ إلى الوراءِ، أُلاحِظُ كيفَ تناغَمَتْ رِحْلتَا نُضوجي نَسويّاً ونُموّي رقْصاً. “غصْباً عنّي” اكتشفتُ أنَّ لِلمُعاناةِ والكفاحِ اسماً، فبَحثتُ و”غصباً عنّي” اكتشفتُ أن للجِسمِ سيرةً لا تَخصُّ أحداً سِواهُ فَرقَصْت.
أُمسِكُ اليومَ بِطرفِ ثوبِ “الرقّاصةِ” كما أُمسكُ بِطرفِ ثوبِ نسويّةٍ أراني أُجادلُها وأراها تُبدِّلُني. تسخَطُ المُمارَسةُ وتَهدأُ، تَنتَفِضُ وتتَخمَّرُ، تَعلو ثُمَّ تَقعُ، تَماماً كالمُقدِّماتِ الكلاسيكيّةِ في لوحاتِ التّسعيناتِ المُلوَّنةِ التي ألهَمَتْ تَحرُّكاتَنا، رُبّما لِكونِها أسْعدَتْ أمّهاتَنا. في الحَقيقةِ، لا أعتقدُ أنَّ الفارقَ كبيرٌ بينَ راقصةٍ تَعتلي المسارحَ وامرأةٍ تمتَلِكُ الشوارع. أو بينَ راقصةٍ تخترعُ الفرَحَ وصبيّةٍ تَستعيدُ جِسمَها. أو بين راقصةٍ تَكسِرُ مُحرّماتٍ وأمٌّ تثورُ لتَفعلَ ببساطَةٍ، ما يَحلو لَها ..
ولذلكَ، غصباً عَنّي أرقُص. رَغمَ ضيقِ نَفْسي.