ولّدت العزلة المفروضة علينا بسبب وباء كورونا شعوراً عاماً بالاختناق والكآبة. لكننا ننسى أنّ الإقامة الجبرية في البيت، هي مصير نساء كثيرات يحتجزن بين جدران منازلهن، لأسباب لا علاقة لها بالوقاية من فيروس قاتل. ألم نسمع كثيراً المثل الشعبي القائل: “المرأة من بيت والدها إلى بيت زوجها إلى القبر؟”. كأنّ مكان النساء الطبيعي هو خلف الجدران، حيث لا “يزعجن” حيّز الرجال العام.
حاربت المناضلة النسوية والكاتبة المصرية دريّة شفيق المتوقّع منها كامرأة طوال حياتها. درست، ناضلت، كتبت، سافرت، قادت المظاهرات، تمرّدت. لكنها عادت لتُنفى من الحيّز العام، ويفرض عليها السجن في المنزل 18 عاماً. بعد سنوات من العزلة الإجبارية، وضعت شفيق حدّاً لحياتها عام 1975. كان عمرها 66 عاماً. قفزت من شرفة شقتها في الطابق السادس، في حيّ الزمالك.
في مقال يروي سيرة دريّة، تكتب ابنتها جيهان رجائي، إنّ والدتها أمضت سنوات الحجر بالقراءة والكتابة، هي التي كانت تفتقد النيل، والمشاوير التي أحبتها على ضفته. وتروي رجائي إنّ والدتها سألتها حين تناولت معها طعام الغداء قبل وفاتها بأيام: “أيعقل أنّ كلّ ما فعلته ذهب هباءً”.

فما كانت جريمة دريّة لتعاقب بالحبس المنزلي؟ جريمتها أنّها أزعجت جمال عبد الناصر، حين وصفته بالديكتاتور، وتحدّت الإجماع الذي كان سائداً في منتصف الخمسينيات حول شخصيته كقائد وطنيّ بمواجهة إسرائيل.
حين اعتصمت درية شفيق في السفارة الهندية عام 1957، وأضربت عن الطعام، احتجاجاً على تراجع عبد الناصر عن وعوده بإقرار قوانين تكفل حقوق النساء السياسية والاجتماعية، كان التوقيت غير مناسب للرئيس المصري، في مرحلة تاريخية شهدت تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي.
قرار شفهي وحازم من الرئيس كان كافياً كي تسجن في بيتها لعقدين من الزمن، وتبقى رهن الاعتقال حتى بعد وفاته.
“الكباش” غير المتكافئ بين دريّة وعبد الناصر، أشبه بمعادلة رمزيّة تختصر الخانة التي تجد فيها النساء في منطقتنا أنفسهنّ، في أغلب الأوقات. الكلمة الفصل في مصريهنّ هي للرجل، أكان أباً، أو زوجاً، أو قائداً: النساء مكانهنّ في البيوت، و”ما يوجعولنا راسنا”.
دعمت درية ثورة الضباط الأحرار في بدايتها سنة 1952، لكنها عادت وتصادمت مع الحكم الناصري لتجاهله المطالب المتعلقة بحقوق النساء السياسية.
دفعت ثمن موقفها غالياً: محي ذكرها من التاريخ، واتهمت بالخيانة، وأقفلت مجلتها الشهيرة “بنت النيل”.
كانت درية شفيق محاربة من نوع خاص، هزمتها العزلة الطويلة. لكن إرثها لم يمح. حين تمارس أي امرأة حقها بالانتخاب أو النشاط السياسي في مصر، رغم كلّ المعوقات والظروف، حين تكمل أي بنت علمها، تبتسم دريّة من قبرها
“بنت النيل” كانت مجلة أصدرتها دريّة شفيق بدءاً من عام 1945 وترأست تحريرها، وتحولت مع الوقت لاتحاد ثمّ إلى حزب سياسي. خلقت المجلة حركة فكرية في زمانها، واجتمعت على صفحاتها مواضيع الحقوق والسياسة بالموضة.

كرّست “بنت النيل” دريّة شفيق نفسها بالنضال النسوي والتحرري في مصر، لعدة أسباب. في الأربعينيات، كانت ترأس تحرير مجلّة نسائية صدرت بالفرنسية بمبادرة من الملكة شويكار، وحملت عنوان La Femme Nouvelle. تلك المرحلة صبغت درية بصبغة النسوية الفرنكوفونية، المتعالية على نساء شعبها، والمدعومة من الملكية.
من ناحية ثانية، كانت أصول درية من الطبقة الوسطى، ما جعلها غير محبوبة في أوساط النسويات الأرستقراطيات. ومع أنّ هدى شعراوي، رئيسة الاتحاد النسائي في مصر وإحدى رائدات التحرر النسوي، دعمتها وشجعتها في بدايتها، إلا أنّها عادت وأقصتها. ربما كانت أفكار درية أكثر صدامية من معاصراتها.
من خلال مجلة “بنت النيل” استطاعت درية أن تتواصل مع النساء المصريات من مختلف الطبقات، وكانت تستقبل شكاويهن في مكتبها.
عبر المقالات التي نشرتها، اتضحت رؤيتها لطريق تحرر النساء ببلدها، ولخّصتها بمحطتين: محو الأمية والحق بالانتخاب، علماً أنّ الحجة السائدة في ذلك الحين لعدم منح النساء حق الانتخاب كان أنهن أميات بغالبيتهن.

نقلت درية معركتها عن صفحات المجلة إلى أرض الواقع، وبدأت بتنظيم دورات محو أمية في المناطق المصرية، وشاركت من خلال “اتحاد بنت النيل” بالثورة ضد الإنكليز، وناضلت لنيل حق النساء بالتصويت والمشاركة السياسية.
حين قفزت من شرفة منزلها بعد 18 سنة من الحبس المنزلي، كانت المرّة الأولى في حياتها التي تتوقّف فيها دريّة عن المحاربة.
ولدت درية في طنطا عام 1908 لموظف حكومي، سمحت له وظيفته بأن يجول مع عائلته بين مدن عدّة، من بينها المنصورة والإسكندرية.
درست في الاسكندرية، في مدرسة تديرها بعثة فرنسية، وكانت متفوقة. حين أنهت المرحلة الابتدائية، اكتشفت أنّ المرحلة الدراسية التالية غير متاحة للبنات، بل للصبيان فقط. خاضت معركتها الأولى، ونالت حقها بأن تكمل دراستها، وواصلت تفوقها وصولاً إلى جامعة السوربون، حيث نالت شهادة بكالوريوس بالفلسفة.
عادت إلى مصر، وسمعت عن مسابقة لاختيار ملكة جمال مصر، وعرفت أنّ الشابات المسلمات لم يشاركن فيها على الإطلاق، على اعتبار أنّ الأمر منافٍ للأعراف والتقاليد. ورغبة منها بتحدّي الأفكار الراسخة، شاركت بالمسابقة، ونالت المركز الثاني. قد تكون حادثة طريفة، لكنها في العمق، تبيّن كم كانت درية مشاكسة.
خاضت تجربة خطوبة فاشلة صدمت فيها بعريس حاول تدجينها، وحين تصدّت له، حاول أن يبتزها بنشر صور لها بفستان عاري الكتفين. تركته وعادت إلى فرنسا، وأقفلت صفحة التفكير بالزواج، لتركّز على تعليمها. هكذا، كتبت رسالتي دكتوراه، واحدة في مجال الفن، والأخرى عن المرأة في الإسلام. كان عمرها 32 سنة حين نالت شهادة الدكتوراه من السوربون بدرجة مشرفة.
في فرنسا، توطدت علاقتها بابن خالتها نور الدين رجائي، أحبته، تزوجته، وعادت معه إلى مصر. لكن مستواها التعليمي لم يكن معياراً كافياً لتجد عملاً في بلدها.
جرأة درية شفيق خلقت لها عداوات، ولم تستطع أن تنال وظيفة في الجامعة، خشية أن “تفسد التلاميذ”. حتى زميلاتها الداعيات لتحرر النساء لم يرحبن كثيراً بحضورها، بعدما اعتبروها جريئة أكثر من “الحدّ”.
كلّ ذلك لم يحبط عزيمة دريّة، فحاولت من خلال “اتحاد بنت النيل” أن تصنع فرقاً في مجتمعها. وكانت المحطّة الأبرز في تاريخ الاتحاد، اقتحام البرلمان المصري سنة 1951. قادت درية حوالي 1500متظاهرة لفرض مناقشة النواب حق النساء بالانتخاب. تحرّك أغضب الملك فاروق جداً، ويقال إنه بعث لدريّة برسالة مع زوجها، قائلاً أن النساء لن ينلن حقّ الانتخاب طالما هو على عرش مصر.
بعد سقوط الملكية وزوال الاحتلال الإنكليزي الذي ناضلت درية مع زميلاتها ضدّه، حوّلت “اتحاد بنت النيل” لحزب سياسي، وواصلت خوض معاركها. هكذا، أضربت عن الطعام سنة 1954 احتجاجاً على تشكيل لجنة لتأليف الدستور المصري الجديد من دون وجود ولا سيدة. ثمّ عادت وأضربت عن الطعام مرة ثانية، عند صدامها الشهير مع عبد الناصر.
كانت درية شفيق محاربة من نوع خاص، هزمتها العزلة الطويلة. لكن إرثها لم يمح. حين تمارس أي امرأة حقها بالانتخاب أو النشاط السياسي في مصر، رغم كلّ المعوقات والظروف، حين تكمل أي بنت علمها، تبتسم دريّة من قبرها.
في إحدى قصائدها، تكتب حواراً بينها وبين أبو الهول، وتسمعه يقول لها:
“أنت وحدك تعرفين
أنت وحدك تستطيعين
أنت وحدك ترغبين
أنت وحدك تجرؤين…”
وبالفعل كانت الوحيدة التي تجرأت، في محطات عدة من حياتها. وكما كتبت الناشطة النسوية فاطمة عبد الخالق بجريدة الأهرام مرّة: “مرّ وقت كانت درية شفيق الرجل الوحيد في مصر”.