“يا فساتينك… بس اللي جوه الفستان أحلى… طيب ما تيجي أقولك كلمة”، جملة كانت كافية لتعيد سارة نصر (٢٦ عاماً) إلى بيتها حزينة وغاضبة. خرجت في مشوار عاديّ في أحد شوارع القاهرة، متجهة لشراء بعض الحاجيات، لكنّ الفعل العاديّ جداً لم يمرّ بسلام.
حين أخبرت أهلها ما حدث، ألقوا اللوم عليها، لأنّها كانت ترتدي فستاناً طويلاً بألوان زاهية. قالوا لها إنّ للفساتين ظروفاً مناسبة لارتدائها، وأن الخروج بها في الشارع، “تبرّج” يبيح للمتحرّشين أفعالهم.
اشترت سارة ذلك الفستان منذ أشهر طويلة، وعلّقته في خزانتها. حين انتقته للخروج، ظنّت أنّه مناسب لجولة سالمة وخالية من المضايقات التي تحذرها منها والدتها كلّ صباح.
في طريق العودة إلى المنزل، مرّت قرب أحد المقاهي القريبة. هناك، قرّر بعض الشباب الجالسين في المكان أن يتركوا ما في أيديهم من مشروبات ساخنة ودخان، ليتتبعوا خطواتها وفستانها. ثمّ وقف أحدهم قبالها، متوجهاً إليها بكلمات بذيئة، مستبيحاً مساحتها الخاصة وجسدها.
في خزانة سارة فساتين جديدة لم ترتديها بعد. تخشى أن تتعرّض لتحرش لفظي أو جسدي إن خرجت بثوبٍ تحبّه إلى الشارع. تنتظر مناسبة خاصة أو سهرة في مكان مغلق لكي ترتدي شيئاً من مجموعتها.
تخبرنا: “أن أرتدي فستاناً بالطريقة التي أريدها وأسير به في شوارع القاهرة نهاراً، ليس بالأمر السهل على الإطلاق. هناك معايير للفساتين المسموح التجوّل بها في المدينة، وهي فساتين المحجبات التي لا تلائمني ولا تتناسب مع ذوقي في الملابس. لذلك أترك فساتيني المفضلة للمناسبات”.
عرفت نجمات السينما المصريّة بفساتينهنّ، خصوصاً في زمن الأبيض والأسود. مع قدوم الألوان، باتت الفساتين تختفي تدريجياً عن الشاشة ومن الشارع. يخفي هذا التحوّل في الموضة واقعاً مأساوياً عن فتيات يخشين على سلامتهنّ إن خرجن بفستان، ومجتمع يخاف من التنانير والألوان
كابوس التحرّش “المبرّر”
في أفلام الخمسينيات والستينيات المصرية، كانت الممثلات يتفنّن بانتقاء الفساتين التي ألهمت أجيالاً. التنانير كانت قاعدة في الشوارع كما صورتها لنا السينما.
في السبعينيات، ظهرت طفرة جديدة في الموضة النسائية المصرية، مع صعود موضة غطاء الرأس المعروف بالـ”بونيه”، والذي تزامن انتشاره مع ذهاب أعداد كبيرة من الرجال للعمل في الخليج. وبدأ انقراض الفساتين من شوارع القاهرة يتضح في الثمانينيات، حين راجت موضة السراويل الملوّنة، مع إقبال أوسع للنساء على سوق العمل.
في العقدين الماضيين، بات التحرش محركاً مهمّاً في تجنّب المصريّات للفساتين والتنانير، وحرصهنّ البالغ على اختيار ملابسهنّ، مع ارتفاع نسب الاعتداءات الجنسية عليهنّ في الشارع.
بعد أحداث التحرّش الجماعي خلال ثورة يناير، بات النقاش حول التحرّش مفتوحاً في الحيّز العام، وعلى مواقع التواصل، بشكل أوسع.
في شهر يناير الماضي، انتشر فيديو قصير لحادثة تحرّش جماعي في المنصورة (محافظة الدقهلية – شمال القاهرة)، خلال الاحتفال بالعام الجديد. هرع عشرات الشباب خلف فتاة ترتدي فستاناً قصيراً، وتبعوها إلى السيارة التي كانت تقلها، وحاولوا تعريتها، فيما تدخلت مجموعة شباب لإنقاذها من بين أيديهم.
وفي شهر أغسطس من عام 2018، تحوّلت قضيّة تحرّش في منطقة التجمع الخامس في القاهرة إلى قضية رأي عام. نشرت شابة اسمها منة جبران فيديو توثّق فيه واقعة تحرّش، عند انتظارها باص العمل، حين فوجئت بشاب يقترب منها، ويدعوها لشرب القهوة، “بدل ما انتِ واقفة في الشارع وكلّ الناس بتضايقك”. السجال حول ذلك الفيديو وصل إلى البرامج التلفزيونية، فيما أوضحت منة خلال شهادة عبر صفحتها على فايسبوك أنّها قرّرت تصوير الشاب بعدما ملّت من ملاحقته لها أثناء سيرها في الشارع.
وتعليقاً على حالة الجدل التي أثارتها تلك الواقعة، أصدر الأزهر الشريف بياناً أعلن أن “التحرش، إشارة أو لفظاً أو فعلاً، هو تصرّف محرّم وسلوك منحرف”.
تقول 60 بالمئة من المصريات إنّهن تعرضن للتحرّش، ويعترف 65 بالمئة من المصريين إنّهم تحرّشوا بالنساء، وفقاً لدراسة أجرتها “الأمم المتحدة” ومؤسسة “بروموندو” عام 2017. شملت الدراسة خمس محافظات مصرية، ووافقت غالبية المشاركين فيها من الجنسين على أنّ “النساء اللواتي يرتدين ملابساً استفزازية”، بحسب وصفهم، “يستحِقْن المضايقة”.
وفي أكتوبر من العام الماضي، تقدّمت البرلمانية المصرية غادة عجمي بمشروع قانون هدفه الحفاظ على ما أسمته بالذوق المصري العام. يجرّم مشروع القانون كل “ما يمسّ الذوق العام أو يقلّل من احترام الثقافة والتقاليد المصرية أو يسيء لها”. ونصت المادة الرابعة من القانون المقترح على أنه “لا يجوز الظهور في مكان عام بزي أو لباس غير محتشم أو ارتداء زي أو لباس يحمل صوراً أو أشكالاً أو علامات أو عبارات تسيء إلى الذوق العام”. وأغلق باب النقاش في المشروع المقدم مع رفض اللجنة التشريعية والدستورية بمجلس النواب النظر فيه.
عاشقة الفساتين
تحلم ليلى إبراهيم (٢٩ عاماً) بأن ترتدي الفساتين التي تملأ خزانتها، لكن رغبة أهلها تغلب أحلامها، وتجعلها تفكّر كثيراً قبل أن ترتدي فستاناً إلى العمل. تخبرنا: “لم أكن أعلم أنّ الأمر سيسبّب لي المتاعب، لكني حين قررت أن أذهب لمقابلة صديقاتي مرتديةً فستاناً اخترته بسيطاً وأنيقاً، رفضت والدتي خروجي بالفستان، وأجبرتني بعد شجار دام لنحو ساعة ونصف، على استبدال الفستان بملابسي العادية، قبل أن أغادر المنزل”. لم تنته قصة فستان ليلى عند ذلك الحدّ، إذ هددتها والدتها بأنّها إن كرّرت “فعلتها”، سوف تخبر شقيقها ورجال العائلة.
من جهتها، لم تخضع شيماء إمام، وهي شابة في أواخر عشريناتها، للمعوقات والضغوط. رغم تراجعها قليلاً عن ارتداء فساتينها، إلا أنّها حرصت ألا تبقيها حبيسة الخزانة. تطلق على نفسها لقب “عاشقة الفساتين”، وترى أنّ أنوثتها ليست عيباً أو خطيئة حتى تخفيها.
تخشى شيماء التحرش والمواقف المؤلمة التي تتعرض لها أحياناً، ورغم ذلك لا تتردّد بارتداء فساتينها، لكنها تختار الزمان والمكان لتتحرّك بملابسها بحريّة.
تخبرنا شيماء: “ذات يوم ارتديت فستاناً قصيراً وطلبت سيارة من أحد تطبيقات الأجرة. وأثناء رحلتي من المنزل إلى وجهتي، شعرت بنظرات السائق الجارحة. خفت وارتبكت، وأمسكت بأداة للدفاع عن النفس أبقيها في حقيبتي دوماً. اقتصر الأمر على النظرات، ولكني قررت منذ ذلك الحين عدم ركوب سيارات أجرة مرتديةً فستاناً، وصرت أفضل الذهاب إلى مناسباتي برفقة أصدقاء”.
الشارع كان أمان
اختفاء الفساتين من شوارع القاهرة لم يستمرّ من دون مقاومة ومحاولات الحفاظ عليها. خلال السنوات الماضية، انطلقت عدة دعوات لحث الفتيات على ارتداء الفساتين في الشوارع، أحدثها “فستان زمان والشارع كان أمان” التي أطلقتها ناشطات نسويات على مراحل عبر مواقع التواصل، بدءاً من عام 2016، وتفاعلت معها المئات.
آخر محطات الحملة كانت عام 2018، وشملت جلسات نقاش للتوعية على عدم وجود علاقة بين ملابس الفتيات والتحرّش، إضافة إلى جلسات تصوير.
تحكي السيدة الخمسينية حياة مخلص كيف تبدّلت شوارع القاهرة مع مرور الزمن، ما لم يؤثّر سلباً على ملابس المرأة فحسب. تتذكر مخلص أيام زمان قائلة: “كنا نرتدي الفساتين في أي زمان ومكان. لم تكن الشوارع آمنة مئة بالمئة، كانت المعاكسات موجودة، ولكن من دون ألفاظ بذيئة. كان هناك خوف على المرأة وخوف منها أيضاً، إذ لم يكن أي رجل يتجرّأ على لمس امرأة أو التعرّض لها”.
لم تكن مخلص تخاف من ارتداء الفساتين بكل أشكالها وأنواعها في أيّ وقت وخصوصاً في مكان العمل. “الآن أخشى على بناتي من لبس فساتين لافتة للنظر في الشارع”، تخبرنا. “اتفقت معهن على حصر لبس الفساتين بالمناسبات، وإن كن يرغبن بارتدائها في المناسبات العادية، عليهنّ اختيار فساتين طويلة وفضفاضة كي لا يتعرضن للأذى”.