ترسم طفولتنا الأولى مسار حياتنا. لا يحتاج الأمر إلى شهادة في علم النفس العيادي لكي ندرك ذلك. معظم الراشدين الذين يزورون عيادات الطب النفسي إنما يفعلون ذلك لسبب أساسي: الشفاء من الجراح والعقد الكامنة التي تسبّب بها أب عنيف، أو أم غائبة.
ليس هناك أهل مثاليون، ذلك لا يجعل منهم أهلاً بغيضين. في أحيان كثيرة لا يتعمّد الأهل إيذاء أولادهم، بل يواصلون أداء دورهم بطريقة غير مدروسة كما تعلّموها من أهاليهم هم. هكذا، تمتدّ الندوب ذاتها وأنماط العلاقات المضطربة ذاتها في العائلة الواحدة من جيل إلى جيل.
الأذى الأعمق الذي تسببه علاقتنا المضطربة بالأهل في الصغر، يطال هويتنا، وروايتنا الخاصة عن أنفسنا. ثقة منعدمة بالنفس، كراهية للذات، نزعة للتخريب على النفس، شعور عميق بعدم الاستحقاق، أنماط تعلّق هوسيّة في العلاقات العاطفية أو على العكس انفصال عاطفيّ تام عن الشريك… كلّها أعراض ناتجة عمّا نتشربه كأطفال وما نشعر به من نقص في العاطفة أو الأمان أو الاحتضان.
لم أكن أدرك كم السموم التي ورثتها من أهلي حتى خضعت لعلاج نفسي السنة الماضية. في كل مرة أحاول أن أناقش الأمر معهم، تكون الإجابة: “ليش شو كان ناقصك؟” (ما الذي كان ينقصك؟).
خلال العلاج النفسي، اكتشفت أنّ كآبتي مصدرها حزن متراكم منذ الطفولة، وكذلك شعوري الدائم بالذنب؛ حتى أنّ انجذابي لشخصيات نرجسية وسامة، ناتج عن رغبة دفينة بإصلاح العلاقة بين والديّ، واستعادة لنمط التفاعل بين أب نرجسي وأم ضحية.
قصتي ليست منعزلة، ولا حالة فردية.
لم تكن مناقشة المشاكل النفسية شائعةً في طفولة آبائنا وأجدادنا. ولدنا في كنف جيل لا يعرف أن يعبّر
أمهات ظالمات
عانت هبة (27 عاماً) من تعنيف والدتها العاطفي والجسدي، حتى باتت أمّها رمزاً لكلّ ما هو “بشع في حياتها”. والدتها مقعدة، نتيجة إصابتها بشلل الأطفال في سن مبكرة. وكانت تحمّل ابنتها ذنب مرضها، وذنب طلاقها من والدها. “كانت تعتمد أسلوباً غريباً، كأنّ مصدر الحبّ بالنسبة لها، ينبع من تعنيفي عاطفياً”. أثّر ذلك على شخصية هبة كثيراً، ولكنها تخلصت من تبعاته من خلال العلاج النفسي. اليوم، هي منفصلة عن أمها كلياً، ولا تشعر أنّها تدين لها بشيء.
كبر معظم أهالينا في ظروف صعبة كالحرب، والدمار، والأزمات المعيشية، وتعرضوا بدورهم للعنف من أهلهم. لم تكن مناقشة المشاكل النفسية شائعةً في طفولة آبائنا وأجدادنا. ولدنا في كنف جيل لا يعرف أن يعبّر.
يخبرنا حسّان (22 عاماً)، أنّ والدته كانت شخصية مسيطرة للغاية، وتعتبر ذلك نوعاً من المحبة. “لم تكن تسمح لي بالذهاب إلى الدكان، وترسل أختي دوماً، لأنها كانت تخاف أن تدهسني سيارة، لأني ذكر، وإن تعرضت لحادث لن يبق من يرث العائلة ويحفظ نسلها”. يقول حسان إن ذلك تسبّب له بمشاكل عدة، منها ضعف في الشخصية، وتعلق مفرط بالآخرين، كما أنه تسبب بعقد كثيرة لأخته. كان الحل الوحيد بالنسبة له، أن يفتح قلبه لأخته، ويحكيا سوياً، كي يفهما سلوك الأم المؤذي.
بالنسبة لجنى (26 عاماً)، فهي لا تتذكر إلا طفولة مليئة بالبكاء والصراخ. لم تعرف حب الأم يوماً، ولم تع أنّ أمّها شخصية سامة ومؤذية، إلا حين دخلت إلى بيوت صديقاتها، ورأت كيف تعاملهن أمهاتهن. تقول: “يتطلب الأمر الكثير من الجهد والقوة لتفتحي عينيك بعد سنوات طويلة من الأذى. الآن أنا أعاملها كشخص غير سليم عقلياً ويحتاج إلى مساعدة. سلوكها ما زال يؤثر علينا جميعاً، لكننا تعلمنا كيفية التعامل معه”.
آباء نرجسيون
ليس شائعاً تفكيك سلوك الأمهات السام، خاصة في مجتمعنا العربي، حيث هنّ رمز للتضحية وبذل النفس. في المقابل، هناك تطبيع تام لسلوك الآباء المؤذي، كأنّه جزء من تكوينه كراعٍ للأسرة، بحسب تقسيم الأدوار التقليدية. دوره التأديب وضبط إيقاع الجميع.
يخبرنا جوني (32 عاماً) أنّه لم يتعاف من ترك والده للعائلة، حين كان لا يزال في سن المراهقة. يقول: “كنت أتلاعب بمشاعر الناس وبالأخص الفتيات، لكن كنت أعيش بكآبة كبيرة. السبب هو والدي الذي تركنا وعذّب أمّي وعنّفنا”. شخّص جوني بالنرجسية منذ حوالي سنة، ويقول إنّ التشخيص ساعده على فهم نفسه ونمط علاقاته مع الآخرين. لم يسامح جوني والده، وأبقى مسافة فاصلة بينهما. “أظن أنّ أفضل طريقة للشفاء هو أنّني بنيت نفسي بنفسي، وأعيش من خلال ما حققته، لا من خلال والدي. وأنا أهتم بأمّي. كان هذا انتقاماً من طفولتي السيئة ومن والدي الشرير”.
تخبرنا زينب (24 عاماً) أنّ مرض والدها النفسي، جعل حياتها جحيماً. كان معنّفاً، ويشكّ بكل شيء، وفرض عليها الحجاب. كان يسجنها في المنزل، خوفاً من أن ترحل وتتركه، ويهددها بقتل نفسه. تقول: “كنت فتاة محجبة، رغم إلحادي وعدم قناعتي بالدين، أعيش حياة مزدوجة. أظن أنّه لا يمكننا أن نشفى من الأهل البغيضين إن كنّا نعيش معهم، ونرضخ لهم، ونخاف منهم، ونأخذ ظروفهم كأولوية على ظروفنا واحتياجاتنا”.
غادرت زينب المنزل حين أصبحت مستقلة مادياً. كان الهرب طريقها للشفاء. ورغم أنّ والدها نفّذ تهديده، وحاول الانتحار، إلا أنّها لم ترضخ ولم تعد. “تصالحنا مؤخراً، وأخبرته لماذا غادرت. أكذب كثيراً عليه، فلا أخبره أنّني خلعت الحجاب، وأزوره حين أتأكد أنّه تحت تأثير المهدئات”.
أنماط تربية بغيضة
أطلقت عالمة النفس أليسون كورنر والصحافية أنجيلا ليفين موقعاً بعنوان “أهل بغيضون” لمساعدة من يعانون من علاقة متوترة مع أهاليهم لتقييمها والتأقلم معها.
تفصّل الباحثتان في مقابلة مع صحيفة الغارديان البريطانية خصال الأهل البغيضين:

للمعاملة السيئة أشكال كثيرة، فقد تطال طفلاً واحداً دون أخوته. ربما لا يوجه له الأذى بشكل مباشر، بل عبر تشجيع أخوته الآخرين، واستثنائه. هذا من دون أن نحكي عن مناقشة خصوصيات الطفل مع أفراد العائلة الآخرين، وذلك شائع في مجتمعنا العربي. ومن دون أن نذكر التعنيف الجسدي أو حرمان الطفل من حقوقه الأساسية في اللعب أو الدراسة.
أنماط التعلّق
من المؤشرات المهمة لدراسة وفهم علاقتنا بأهلنا، نظرية التعلّق التي خلص إليها عالم النفس البريطاني جون بولبي واختبرت فعاليتها عالمة النفس الأميركية ماري آينسورث.
بحسب هذه النظرية، نبني في السنة الأولى من حياتنا نموذجاً عن طبيعة العلاقات بناء على علاقتنا بأهلنا أو بالأشخاص الذين قدموا لنا الرعاية، وذلك رد فعل غريزي لكي نستطيع أن نفهم كيف نستمرّ بالحياة في بيئتنا المباشرة.
في أشهر حياتنا الأولى، نكتسب أحد هذين النمطين: التعلّق الآمن، والتعلّق غير الآمن. في الحالة الأولى، يكتسب الطفل من أهله عاطفة متوازنة وشعوراً بالأمان، ويشعر بثقة أكبر بالآخرين، ويجد دافعاً لمدّ يد المساعدة لمن يطلبها.
40 إلى 50 بالمئة من الأطفال يطوّرن نمط تعلّق غير آمن، وذلك إن كانوا أولاداً لأهل مشتتين، أو متعجرفين، أو غير موضع ثقة، أو عنيفين. عندها يحاول الطفل جاهداً الحصول على الأمان.
كيف يتطوّر الأمر عندما يكبرون؟ في علاقاتهم العاطفية، قد يجدون أنفسهم منجذبين لشخصيات غير حساسة، غير موثوقة، أو مؤذية. في حالات أخرى، قد يهربون من علاقات صحية لأن الأمر سيبدو غير مألوف بالنسبة إليهم.
علاقة الصداقة التي تجمعني بوالدي، رغم جمالها هي سامة، لأنّها تعني أنّني استسلمت لفكرة أنّهما والدي، وحولتهما لأصدقائي لأنّني أعلم تماماً أنهما لن يعطياني حب العائلة
ما العمل؟
يقول الطبيب النفسي نيرسيس أرماني لـ”خطيرة” إنّ الشخص الذي ولد في عائلة سامة، يعيش في وضعية دفاع دائمة، كأنه في وضعية “البقاء على قيد الحياة” من خطر داهم”. يضيف: “يطوّر أولاد الأهل السامين، دقّة ملاحظة قويّة، لخوفهم الدائم من رد فعل الأهل، ويرافقهم القلق والتوتر للأبد”.
يضيف أرماني: “الحلّ هو الابتعاد عن العائلة، عبر الاستقلال المادي، لأن الأهل السامين يشعروننا أن العيش من دونهم مستحيل. علينا كسر هذا الرابط معهم. المرحلة الأصعب، هي الاستقلال العاطفي عن العائلة، لأنّه يحتاج وقتاً أطول، وإلى دعم نفسي مختص. هناك عدة مدارس نفسية تساعد للشفاء من الأهل السامين وأهمها هي الـMindfulness أو المدرسة التي تعتمد على اليقظة الذهنية. وطبعاً سيختلف العلاج بين شخص وآخر وحالة وأخرى”.
يرى الطبيب إنّ “استيعاب وتفهّم خلفيات الأهل ودوافعهم، ليس كافياً، لأنّ في ذلك عودة إلى دوامة السموم. المواجهة السلبية أو الغضب يغذي العلاقة السامة أيضاً. لذلك الحل هو فهم نمط العلاقة وديناميكيتها. على الشخص أن يفهم أنّ مشاعره أو ردود أفعاله طبيعية، وألا يلوم نفسه. أمّا لوم الأهل، وتوجيه الغضب عليهم، فهو أمر طبيعي، لكنه ليس حلاً، بل جزءاً من الشفاء، وخطوة على طريق الوعي الكامل لطبيعة العلاقة، وتأثيرها علينا، وإيجاد الإجابات”.
لنصرف الذهن عنهم
تخبرني طبيبتي النفسية، أنّ علاقة الصداقة التي تجمعني بوالدي، رغم جمالها هي سامة، لأنّها تعني أنّني استسلمت لفكرة أنّهما والدي، وحولتهما لأصدقائي لأنّني أعلم تماماً أنهما لن يعطياني حب العائلة. وطبعاً، تطلب منّي أن أواجه مشاعري أكثر وأن أغضب منهما وأن أعترف أنّني مجروحة ولا أغض نظري عن هذا الجرح، بل أعمل على معالجته ثم التصالح معه لنسيانه. أي الحل هو التوازن بين المسامحة والتخطي والغضب واللوم.
من الصعب علينا أن نغيّر أهلنا، أو أن نمحو ذكريات أليمة من الماضي. أحياناً، مع التقدم في السنّ، وتحقيق الاستقلالية في الحياة والعمل، من المفيد وضع حدود واضحة حتى مع أفراد العائلة المقربين، خصوصاً إن كانوا مؤذين. قد يكون الأمر صعباً بالنسبة للبعض، لكن عدم حمل مشاعر انتقامية من الأهل، والتركيز على مساعدة أنفسنا، والتقدم في الحياة، أكثر إفادة لجميع الأطراف.
بحسب بيغ ستريب، وهي صاحبة كتاب “التعافي من أم غير محبة واستعادة حياتك”، الحلّ الوحيد للشفاء من علاقة مضطربة مع الأهل المؤذين هو: صرف الذهن عنهم.
صرف الذهن لا يعني أن نسامح إن كانت الأذية قاسية جداً، ولا يعني أن نبقى أقوياء، أو نحافظ على هدوئنا. صرف الذهن يعني أن نفهم ما الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، وكيف يمكننا معالجة علاقتنا بأنفسنا، والتحرّر من الرواية التي رسخها أهلنا عن أنفسنا فينا، سواء بتعليقاتهم السلبية، أو إشعارنا دوماً بأننا لسنا كافين، أو من خلال إهمالهم لحاجاتنا العاطفية الأساسية.
أن نصرف الذهن يعني أن نتحرّر من الخوف من سطوة الأهل علينا، حتى في سنّ الرشد. أن نصرف الذهن يعني أن نتوقف عن تعريف هويتنا نسبةً لما رسموه لنا.