أنت امرأة في عالمنا العربي، أو في أي مكان آخر على وجه الأرض؟
تتعرضين بطبيعة الحال للعديد من المواقف التمييزية أو الإجرامية كالتحرش والاغتصاب، فقط لكونك امرأة؟
ترغبين بالحديث عن ذلك من دون أن يقاطعك أحد بعبارة من قبيل: “معك حق، لكن عليك أن تكوني أقل انفعالاً وأنت تتحدثين”؛ “معك حق، لكني أعتقد بأن ملابسك هي السبب”؛ “معك حق، لكن لمَ لا تخففين من عفويتك وابتساماتك؟”.
لا تحزني، فأنت لست وحيدة في هذا الخندق. معظم النساء حول العالم يعانين من عدم قدرتهن على طرح قضاياهن، من دون التعرض لنوع من إلقاء اللوم عليهن، فيتحولن من كونهن ضحايا إلى مسببات لظلم وقع عليهن شخصياً، فقط لأنهن “نساء”، عليهن الالتزام بقواعد معينة طيلة حياتهن.
ولأنها هموم مشتركة تبدو وكأنها بدون نهاية، قررت مجموعة نسوية سورية منذ حوالي شهرين إطلاق حملة تتصدى لكل هذه الأحكام المسبقة، وتدعو للتركيز على محتوى القضايا التي تتحدث عنها النساء بعيداً عن التأنيب، تحت عنوان “معك حق، بس” (وكلمة بس في العامية السورية تعني “ولكن”).
من قصة شخصية إلى حملة جامعة
“بدأت القصة كمزحة فعلياً”، تخبرني كل من رهام مرشد وبراءة الطرن، من فريق “منظمة نسيج” المسؤولة عن إطلاق حملة “معك حق بس”، أثناء لقاء معهما في العاصمة السورية دمشق.
مع تعرّض براءة، وهي محامية متدربة، لمواقف تحرش متكررة في وسائط النقل العامة، وصل بعضها حد إخراج أحد المتحرشين عضوه الذكري وهو جالس إلى جانبها، قررت أن السكوت ليس حلاً.
لجأت لتقديم شكاوى بشكل مباشر للشرطة، وحكت عن الأمر على صفحتها الشخصية على فايسبوك، فتلقّت، إلى جانب التعليقات الداعمة، لوماً لطرحها الموضوع بطريقة “غاضبة”.
“كيف لي أن أتحدث عن حوادث مهينة لهذه الدرجة، نتعرض لها بشكل دوري، وأنا هادئة؟”، تتساءل الفتاة العشرينية، وتضيف: “قد يسهل على الآخرين الهدوء وهم يستمعون لحكاياتنا، أما نحن اللواتي نحتكّ بشكل مباشر بهذه الحكايات، لا نمتلك سوى أن نكون غاضبات، وأن نتصرف بناء على هذه المشاعر التي لا يعرفها سوى من تعرض فعلياً للأذى”.
دفعت هذه الأفكار ببراءة للكتابة مرة أخرى على صفحتها، عن العبارات التي تتلقاها تقريباً كل فتاة تحكي عن معاناتها: “معك حق بس لو حكيت بلهجة أقل حدة”؛ “معك حق بس هالجملة غير مناسبة لصبية لطيفة وحلوة متلك”؛ “معك حق بس أنا بحس…”، وذيّلت كل ذلك بقولها “غير مسموح لكم إغراقنا بهذه العبارات كلما حاولنا أن نتكلم، وأن تتدخلوا وتشعروا بدون أن نطلب منكم!”.
“وبين المزح والجد” كما يقال بالعامية السورية، قرر فريق “نسيج” الناشط بمجال حقوق النساء والشباب منذ عام 2016، والذي تعمل معه براءة كصانعة محتوى، تحويل هذه العبارات إلى حملة على فايسبوك وإنستغرام، تهدف لأن تقول “الحق، وكلمة لكن، لا يجتمعان”.
وتسعى الحملة لإيصال فكرتها من خلال منشورات أسبوعية تتناول العديد من المواقف التي مرت بها على الأغلب كل فتاة فينا، على شكل نصوص وتصاميم يظهر فيها حوار بسيط بين رجل وامرأة ضمن موقف معين.
“أن تركز معظم الانتقادات التي تتعرض لها قضايا النساء على الشكل أو طريقة الكلام، وأن تتحول ضحية التحرش أو الاغتصاب إلى متهمة بسبب ما ترتديه، هو استكمال للتمييز الذي تتعرض له النساء في منطقتنا بشكل خاص، وحول العالم عموماً، على كل الأصعدة القانونية والمجتمعية. بذلك تحاول حملتنا معالجة هذا الجانب التمييزي والإضاءة عليه”، تقول رهام، وهي المسؤولة الإعلامية في “نسيج”.
وفق حديث رهام، لا تكتفي الحملة باستهداف مطلقي تلك الأحكام، وإنما النساء أيضاً، إذ تلاحظ ميل العديد منهن لإلقاء اللوم على أنفسهن ونسيان المذنبين الأساسيين في بعض المواقف التي يتعرضن لها، نتيجة الضخّ المستمر من المجتمع على مدار سنوات، والذي يخبرهن على الدوام بأنهن المذنبات، بشكل كلي أو حتى جزئياً.
وترى الشابة العشرينية بأن الرجل لا يمكن أن يلقى ذات التعنيف إن تحدث عن قضاياه وهمومه بانفعال، ولا أحد ينتقد طريقة كلامه أو ملابسه أو مشيته أو ابتسامته، وتضيف: “اليوم يُزرع في عقول الجميع وصفٌ للنسويات على أنهن غاضبات ومنفعلات. أمر مؤسف أن تُنسى أحقية قضاياهن ونضالهن لصالح هذه التوصيفات السطحية”.
من المهم أن نشارك حكاياتنا
تتفق نسبة كبيرة من التعليقات مع مضمون منشورات الحملة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ أغلب متابعي صفحات “نسيج” على مواقع التواصل نساء ومن الفئات العمرية الشابة.
ولكن لا يعني ذلك عدم ورود تعليقات ترفض فكرة الحملة أو تسخر منها، وهو أمر حدث بشكل لافت في المنشورات التي تناولت التحرش وجرائم الشرف. أمران اعتبر بعض المتابعين – نساء ورجالاً – حدوثهما من مسؤولية المرأة ولباسها وتصرفاتها. استدعى ذلك كما تقول براءة نقاشات طويلة، ساهمت بتغيير آراء البعض أحياناً، وفشلت في أحيان أخرى.
إضافة لذلك، اختارت بعض الفتيات مشاركة تجارب شخصية لهن ضمن الحملة، للحديث عما تعرضن له من مواقف حولتهنّ من ضحايا إلى متهمات.
من أولى هذه المشاركات حكاية شابة تعرضت للاغتصاب في مكان عملها، ورفعت دعوى على مغتصبها دخل على إثرها السجن.
ما كان جارحاً في هذه التجربة كما كتبت الشابة –التي فضلت عدم ذكر اسمها- إلقاء اللوم من قبل المحيطين بها على “عفويتها وتحررها” ما يعني حتمية وقوعها ضحية لحادثة مشابهة حسب رأيهم. أثر ذلك بشكل كبير عليها، فتركت العمل ورسبت في جامعتها ودخلت مرحلة طويلة من الكآبة.
تواصلتُ مع صاحبة القصة عن طريق فريق “نسيج”. أخبرتني بأنها رغبت بنشر قصتها عبر هذه الصفحة لتصل لأكبر عدد ممكن من الناس. “ما حدث معي يمكن أن يحدث مع غيري. على الضحية ألا تخاف، وأن تلجأ للقانون عند الحاجة مهما كانت الانتقادات التي تعرضت لها لاذعة”.
اختارت أن تبقي هويتها مجهولة تجنباً لمشاكل محتملة مع عائلتها ومحيطها الذي لم يكن داعماً للإجراءات القانونية التي لجأت إليها بحق المغتصب، ولأن “المهم هو وصول الرسالة بغض النظر عن مرسلها” كما تقول.
لا يوجد وقت مناسب لطرح قضية حقوقية. على الجميع أن يعتاد سماع ونقاش هذه القضايا وطرح رأيه بشأنها في كل الأوقات
ليس للقضايا النسوية جدول زمني أو وصفة
أسأل رهام وبراءة إن كانتا تعتقدان بأنّ المجتمع السوري جاهز لهذا النوع من الحملات والخطاب ذي السقف المرتفع بعض الشيء. تهزان رأسيهما وتضحكان.
تقول رهام إنه لا يوجد وقت للجهوزية: “يبدو ذلك كأننا نسأل: هل قضايا النساء أولوية الآن؟ والجواب هو أنه لا يوجد وقت مناسب لطرح قضية حقوقية. على الجميع أن يعتاد سماع ونقاش هذه القضايا وطرح رأيه بشأنها في كل الأوقات، فهي ليست مجرد أمور مؤقتة بل همّ دائم يلامسنا ونحن جزء من هذا المجتمع”.
تضيف براءة بأنه لا يمكن انتظار مجتمع ما أن يصبح جاهزاً لنقاش أي قضية تمس مواطنيه. “علينا نحن أن نستمر بفتح هذه النقاشات ورفع السقف بشأنها رويداً رويداً. أما أن نلتزم الصمت، فيمكن أن يستمر انتظارنا إلى الأبد”.
وتأمل رهام بأن يتوسع نطاق الحملة ليشمل جلسات مباشرة مع رجال ونساء من شرائح مختلفة.
“رغم الأثر الذي لا يمكننا إنكاره لوسائل التواصل الاجتماعي اليوم، إلا أنها لا زالت عاجزة عن الوصول للجميع. يتمثل أحد أهم تحدياتنا في مخاطبة من يرفضون حديثنا ووجودنا من الأساس، وأن نغير مواقفهم وآراءهم. يتطلب ذلك استراتيجيات مختلفة مباشرة وغير مباشرة، وربما اللجوء للتهكم في بعض الأحيان، فليست هناك وصفة واحدة صالحة لكل زمان ومكان”.