لماذا لا تحتل النساء مراكز صنع القرار في المؤسسات الدينية؟
في المسجد الكبير ببلدتي التي تقع بإحدى محافظات الدلتا أجلس في المنطقة الخاصة بالنساء، ألاحظ أن الحيز الخاص بالنساء ضئيل للغاية مقارنةً بالحيز المخصص للرجال، ويُفصل بينهما بمجموعة من المقاعد مكتوب عليها “الجلوس للرجال فقط”.
على الرغم من أنه لا يوجد نص قرآني يمنع النساء من ارتياد المساجد، إلا أن هناك تحجيم لوجودهن بالمسجد وعرف بأن المسجد ليس مكان النساء، بحجج مثل أن الصلاة للنساء في البيت أفضل، أو بضرورة أن تقرّ المرأة في بيتها، على الرغم من أن المسجد مساحة اجتماعية وليست دينية فقط، وطالما كان للمسجد والكنيسة وظائف اجتماعية، فالأطفال تتعلم في المسجد والرجال تُكون علاقات اجتماعية في المسجد، لكن الأمر نفسه لا يحدث بالنسبة للنساء. فمثلما تقول شيرين خانكان أول إمامة دنماركية ومؤسسة مسجد “مريم” للنساء إن المسجد يهيمن عليه الرجال، وذلك لأن المؤسسات الدينية مؤسسات ذكورية.
تحجيم وجود النساء في المسجد هو جزء من تحجيم وجودها في الفضاء العام، واعتبار مكانها الأول هو البيت، أو المجال الخاص، وهو نموذج لوجودها الخجول في المؤسسات الدينية، سواء كمقرئات ومفسرات للقرآن، أو مفتيات، أو غيرها من الأدوار التي يحتكرها “رجل الدين”، هذا الوجود يتأثر بالأدوار الاجتماعية المتوقعة والمفروضة على النساء، والرجال، والتي حددت للرجال أدوار القيادة، وللنساء دور الزوجة والأم وبالصور النمطية وتوازنات القوى في المجتمع والرؤية السياسية للدول أيضاً حيث أن هذه المؤسسات في الأساس حكومية.
تغيير الخطاب الديني عن النساء بعد ثورات الربيع العربي
إذا رجعنا في الزمن إلى الوراء بعد إندلاع ثورات الربيع العربي، حينما علت الأصوات النسوية في العالم العربي شيئاً فشيء، وضعت حقوق النساء على الأجندة السياسية، بدءاً من التحرش، إلى العنف المبني على النوع، والأحوال الشخصية ووصولاً للتمثيل السياسي للنساء، واشتبكت النساء مع المؤسسات الدينية وحاولت هذه المؤسسات احتواء الحراك النسوي حيناً، فمثلاً أصدر الأزهر وثيقة بعنوان “وثيقة الأزهر الداعمة لحقوق المرأة” في عام 2013 تؤكد بأن النساء مساوية للرجال وتقول إن على الدولة دعم تكافؤ الفرص في تولي الوظائف بين الرجال والنساء.
لكنها استنكرت في مواضع أخرى الرؤى الدينية المخالفة للنسخة الدينية الرسمية التي تفرضها هذه المؤسسات مثلما حدث في بيان الأزهر الذي هاجم مسلسل فاتن أمل حربي للكاتب إبراهيم عيسى والذي تناول حق الأم في حضانة أبنائها، وحذر بيان الأزهر عما أسماه “التستر خلف حقوق المرأة في تقسيم المجتمع”.
هذا الموقف المتأرجح من حقوق المرأة قد يدل عليه إقرار دار الإفتاء المصرية في عام 2012 أنها لا ترى وجود لقضية المرأة وذلك في معرض الإجابة على إحدى التساؤلات عن حكم تولي المرأة للرئاسة وأقرت أن الإسلام ساوى بين الرجال والنساء كأمر مفروغ منه، لكن لم تفسر لماذا ينعكس ذلك على واقع النساء، فقد احتلت مصر في العالم ذاته الذي صدرت به الفتوى للمرتبة الـ 126 من بين 135 دولة في التقرير العالمي للفجوة بين الجنسين.
يُفترض أن هناك رغبة في إدماج النساء في المؤسسات الرسمية في الدول العربية اتباعاً لرؤية 2030 التي اعتمدتها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة عام 2015، وهي 17 هدفاً كلها مرتبطة ببعضها البعض ومنها المساواة بين الجنسين، لكن تحقيق إدماج النساء بشكل حقيقي في كل المؤسسات الرسمية، ومنها المؤسسات الدينية يظل محل تساؤل.
لا يمكن إغفال تغيير الخطاب الديني عن النساء بعد ثورات الربيع العربي، لعوامل شتى، فقد صدرت فتوى من الدكتور شوقي علام في عام 2020 رداً على الإدعاء بحرمة تولي النساء للمناصب القيادية استناداً على الحديث “لا يفلح قومٍ ولوا أمرهم امرأة” تفيد بأن هذه الدعوة باطلة وأن هذا الحديث كان لظرف معين. أو تولي النساء في مصر لبعض المناصب في المؤسسة الدينية مثلما أُعلن تولي دكتورة نهلة الصعيدي أول مستشارة لشيخ الأزهر، وتعيين الدكتورة إلهام محمد شاهين في منصب الأمين العام المساعد بمجمع البحوث الإسلامية، وإطلاق أول مقارئ ومجالس إفتاء نسائية في مصر، لكن يبقى سؤال هل تتقلد النساء رئاسة المؤسسة الدينية أم أنها ستظل في الأدوار المساعدة محكومة بالصور النمطية عنها؟
وهو ما تقول عنه الباحثة التونسية ناجية الوريمي بوعجيلة صاحبة كتاب “زعامة المرأة في الإسلام المبكرة” إن القراءات التاريخية الذكورية مازالت ترسخ حتى الآن إلى أن النساء غير صالحة للقيادة، كما أن زعامة المرأة أو قيادتها قوبلت بالتشويه والتهميش تاريخياً وهو ما ينعكس على واقعها الحالي. وقيادة المؤسسات الدينية ليس استثناء في هذا الأمر.
بالرغم من محاولة المؤسسات الدينية التفاوض مع النساء، والموائمة يظل الرجال يهيمنون على تلك المؤسسات، وتظل الإشكالية كيف يُترجَم وينعكس تولي النساء في المناصب القيادية على أحوال بقية النساء في المجتمع؟ وهل يدعم وصول النساء لمراكز صنع القرار رؤية نسوية أم أنه ينفذ رؤى ذكورية تحكم تلك المؤسسات.
هبة صلاح باحثة مصرية في دراسات النوع الاجتماعي والتنمية تقول لــ “خطيرة” إن المؤسسة الدينية مثلها مثل باقي المؤسسات التي تجمع النساء والرجال في المجال العام، وتواجه النساء تحديات عامة بسبب السياسات الداخلية لبعض المؤسسات وبسبب الصور النمطية الشائعة عن النساء؛ فتجدن عقبات إما بقصدٍ أو بدون تحول بينهن وبين الوصول إلى المناصب القيادية.
لكنها تضيف إنه بالرغم من الثقافة الذكورية المهيمنة على المؤسسات الدينية فقد فتحت جامعة الأزهر أبوابها أمام الطالبات مع صدور قانون رقم 103/1961 لتنظيم شؤون الأزهر، لكن المرأة ظلت مستبعدة من تقلد المناصب القيادية ومنها الإفتاء والوعظ. بدأ ذلك في التغير مؤخرًا بعد بروز باحثات ومفتيات، فهن تتصدرن للفتوى المكتوبة والشفهية ومقابلة الجمهور، وهي منهم فهي مسؤولة عن وحدة دراسات المرأة بوحدة “حوار” في دار الإفتاء، وهي وحدة ناشئة حديثة تهدف لمعالجة قضايا النساء والعنف الأسري، وكذلك احتفت دار الإفتاء المصرية بأول باحثة في لجنة الفتوى. وتقول هبة إن الواعظات نجحن في تغيير مفهوم تواجد النساء في مجال الدعوة والفتوى حيث إن الفكرة السائدة هي أن النساء لا يصلحن إلا للتعامل مع قضايا المرأة فقط.
وهي ترى أن سياسة التمييز القائم على النوع داخل المؤسسة الدينية ترجع إلى طبيعة المؤسسة المحافظة التي تعطي الأولوية في التعيين للرجال، بالرغم من وجود فئة متفتحة تدعم المساواة في التعيين، وبسبب الثقافة الذكورية التي لا ترى أن المرأة مؤهلة لإنتاج المعرفة الدينية.
هل هناك دور للنساء في الخطاب الديني؟
يمكن القول إن وجود النساء بشكل مؤثر في المؤسسات الدينية يرتبط بإنتاج النساء لمعارف دينية، أو إنتاج تفاسير للنصوص الدينية المقدسة من القرآن والسنة، تستخدم العدسة الجندرية وتشتبك مع التراث من منظور نسوي مساواتي كما تقول دكتورة أميمة أبو بكر الباحثة النسوية وأستاذة الأدب الإنجليزي، لكن هذه الأصوات غير موجودة داخل المؤسسات الدينية الحكومية كما تذكر أبو بكر.
وإنتاج المعارف الدينية في المسيحية ليس استثناء، فتقول دكتورة أميمة أبو بكر في كتاب “النسوية والدراسات الدينية” إن الرجال أنتجوا أساس المعرفة المسيحية، وعكسوا في كتاباتهم وتفسيراتهم ثقافة العصور الوسطى المعادية للنساء. لكن يُذكر أن تقلد النساء مناصب كنسية أصبح موجوداً في العالم العربي تحديداً في لبنان وسوريا، وكانت سالي عازر أول قسيسة تُرسم في الكنيسة اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة.
ثمة أصوات نسوية عربية أخرى تبحث في إنتاج النساء للمعارف الدينية الإسلامية، وإعادة قراءة التراث بعدسة جندرية، هذه الأصوات ترى أن التفاسير التي تصل إلينا هي نتاج فقهاء ذكوريين، محكومين بفهمهم ومجتمعهم، وقد كانت تقول النسوية المغربية فاطمة المرنيسي في كتاب “الحريم السياسي- النبي والنساء” إن آراء الفقهاء والمتشددين تتغير بمرور الزمان والمواقف، المرنيسي أيضاً لها محاولات في تفسير بعض آيات القرآن الخاصة بالقوامة.
وترى الكاتبة النسوية والطبيبة المغربية أسماء المرابط في كتاب “المرأة في الإسلام رؤية إصلاحية” إن الإسلام حبيس تأويلات بشرية متراكمة، في الإنتاج الديني، وفي العقليات، هذه التأويلات معادي لوجود النساء في الفضاء المعرفي الديني وترى ضرورة إعادة قراءة النصوص الدينية، قراءة نسائية ونسوية لتحرير النساء.
ليس بالضرورة أن نتفق مع ما ستنتجه النساء من تفاسير دينية، وإنتاج معرفي، وليس بالضرورة أيضاً أن يُعبر هذا المنتج عن كل النساء في المجتمع، لكن تواجدها في كل مؤسسات الدولة ومنها المؤسسة الدينية هو محاولة لكسر احتكار الرجال للفضاء العام.
كتابة ميرهان فؤاد
يمكنك قراءة هذه المقالة باللغة الإنجليزية من هنا.