كل الملابس في خزانتي هي ما يمكن أن يقال عنها “عادية جداً”. إن أردت تنسيق قطعتين، فلن تكونا إلا بنطلون جينز، وتيشيرت. هذه أقصى إمكاناتي في مجال الموضة!
ينسحب الأمر ذاته على أحذيتي، فكلها رياضية، وألوانها إما أسود، أو أبيض، أو رمادي، أو كحلي. حتى اللون البني غير موجود، إذ أني أجده “فاقعاً” أكثر من اللازم، ولا يتناسب مع شخصيتي العادية.
أنا شخص عادي أو كما يقال Average أو متوسّط. اخترت منذ سن صغيرة جداً، أن يكون أسلوبي في الملبس ملائماً لتلك الشخصية، ومتسقاً معها.
غالباً، لا تعجبني الثياب الرائجة، ولا أهتم بمواسم الموضة في المتاجر. أشعر أنها أنثوية أكثر مما يناسبني، أو متأنقة بشكل يتناقض مع انطوائيتي. لذلك، إن بحثتم عني في محلّ الملابس، ستجدونني في قسم الأساسيات، أي الثياب التي تبقى ثابتة على اختلاف المواسم وتقلبات الموضة.
البنطلون حرية
أفكر بالنساء في حقب زمنية قديمة، وكيف كنّ مجبرات على ارتداء فساتين ضخمة، بمشدات مزعجة. أتخيّل أن تلك الثياب لم تكن مريحة البتة، وأنها كانت تعيق حياتهن. كأن المجتمع قيّد أنشطة النساء، وأعمالهن، من خلال حصرهن داخل ملابس غير مهيأة للحركة. لذلك أعتقد أن البنطلون والقميص في مطلع القرن العشرين، كانا بمثابة ثورة ضد القمع.

كان الدافع للتحرر من الفستان والكورسيه، هو المشاركة بالحرب العالمية الأولى. لاحقاً، في العشرينيات، كانت كوكو شانيل من حثّت النساء على ارتداء ملابس الرجال من خلال تصميم سترات وسراويل لهنّ.
مع تغيّر الموضة والحراك الدائم فيها، بتنا نساهم جيلاً بعد جيل بكسر قيود وضعت علينا وعلى حركتنا.
لا بدّ لي أن أعترف، أن الموضة، وإن أخذت طابعاً استهلاكياً، إلا أنها تؤكد، بطريقة من الطرق، أن المرأة تمتلك حقّ اختيار ملابسها. الموضة وسيلة فعّالة للتعبير، تسمح لنا بأن نكون مختلفين وتقدّم لنا نوعاً من الحرية. هناك من يبدع بها، ومن يستخدمها ليعبّر عن هويته، أو ليسجّل موقفاً ما.
لكن الجدل حول الموضة لا ينتهي أيضاً، خصوصاً أن قطاع صناعتها هو أكبر مساهم في تلوّث البيئة. كما أنّه عنصر مؤثّر في توحيد معايير الجمال بشكل يقصي نساءً كثيرات لا ينتمين للمقاييس المفروضة من كبريات دور الأزياء.
لا أملك أي حذاء رسمي
الموضة هي إذاً انعكاس لهوية كل واحدة منا. وأحياناً، تتجلّى هذه الهويّة عبر كراهية الموضة الراقية.
فأنا لا أكره الموضة فحسب، بل لا أعرف كيف أتماشى معها حتى. كل ما هو “جميل” قد أراه “قبيحاً”، وكل ما هو عادي وخفيف وبسيط وغير معقد، قد أراه “جميلاً”.
حتى في المناسبات أواجه صعوبة في الاختيار. فساتيني عبارة عن فساتين سوداء قصيرة، ولا أعرف أن أشتري غيرها. لا يمكنني تقبل الألوان أو حتى الزخرفات أو حتى الإضافات مثل الترتر.
لا يعنيني إن كانت القطعة رائجة وأن الجميع يرتدونها. لا أتقبلها إن شعرت أنها خارجة عما هو مألوف بالنسبة إلي. مثلاً لا يمكنني أن أتقبل حقائب اليد، وأفضل حقائب الظهر المريحة والعملية.
لأقرّب الصورة لكم أكثر… أسوأ ما قد يصادفني، هو مقابلات العمل. فأنا لا أملك أي حذاء رسمي. أذهب إلى مقابلات العمل بأحد أحذيتي غير الرسمية، أو حذاء كونفيرس.
الأسوأ من هذا كله، هو أنني أشعر دوماً بأني لا أملك ما يكفي من الثياب، لأن كل القطع في خزانتي تشبه بعضها البعض. أملك خمس تيشرتات سوداء، يمكنني أن أرتدي واحدة مختلفة كل يوم على مدى 5 أيام، لكني سأشعر أنني أرتدي التيشرت ذاتها. ولنفترض أنني قررت شراء ملابس جديدة، سأعود وأنتقي الملابس ذاتها التي تشبه ملابسي!

أنا متأكدة أنّني لست وحيدة، وهناك الكثير من الفتيات اللواتي يفكرن أو يشعرن مثلي.
عيوب الموضة
أصبحت الموضة بالنسبة لكثر، بمثابة هوية مزيفة، أو قناع، يتحكم بثقتنا بنفسنا.
أسوأ ما في الأمر، هو تلك المقالات التي تحدد لنا ما “يجب” علينا ارتداؤه في الموسم القادم. كأنه مفروض على الجميع ارتداء الألوان ذاتها، أو شراء موديل معيّن، قد لا يتناسب مع ذوقنا.
تختصر الموضة كلّ ما في النزعة للاستهلاكية من عيوب. فهي تجعلنا نشعر أننا بحاجة إلى ثياب أو قطع لا نحتاج إليها بالفعل. كما أنها تفرض علينا بشكل غير مباشر، قيوداً سلطوية جديدة. فإن لم نتبع موضة الموسم، سنشعر أننا خذلنا المتجمع، أو دار الأزياء أو المصمّم الذي يتحكّم بنا، ويفرض ذوقه علينا.
تغير الموضة الدائم ليس لمصلحتنا أبداً، هو بمثابة فخ لنشتري أكثر. هو وسيلة لنشعر أنّنا بحاجة إلى ملابس لم نكن فعلاً بحاجة إليها. وهو وسيلة لفرز الناس، وتقسيم العالم، بناءً على القدرة الشرائية.
من الطبيعي أن تكون شخصاً كارهاً للموضة، أو على الأقلّ، لا تتفق مع صيحات الملابس السائدة. لكن، في بعض الأحيان، قد يضع ذلك عليك عبئاً نفسياً كبيراً، خصوصاً لمن هم في سنّ المراهقة.
تخيلوا معي، فتاة في المدرسة الثانوية، لا تمتلك الحسّ اللازم لتنسيق ملابسها، ولا تحبّ صيحات الموضة الرائجة. من المؤكد أنّ ذلك سيجعلها مادّة للسخرية من الأخريات، وحتى عرضة للتنمّر. فلسببٍ ما، فإنّ امتلاكك لذوق مختلف ومميز في اختيار الملابس، يجعلك تلقائياً شخصاً أفضل من غيرك.
لا مشكلة إن كنت شخصاً عادياً، تحبين الأساسيات، لا تعرفين من الألوان إلا الأبيض والأسود، ولا تمتلكين ذوقاً مميزاً أو حسّاً في تنسيق الملابس واختيارها
تيارات متصارعة
يستخدم كثر الموضة لتسجيل موقف من المجتمع والاقتصاد والنظام السياسي. في عصرنا هذا، تعدّ الموضة حاجة، لذلك نشهد على تيارات تحاربها، وأخرى تقع ضحيّتها.
يمكن أن أصنّف نفسي ضمن التيار المسمّى Normcore، أي من يرتدون قطع الثياب الأساسية، ويبحثون عن التحرّر ممّا هو رائح ومبالغ به. للمفارقة، بات هناك علامات تجارية تصنع الملابس لهذه الفئة بالتحديد، ما أفقدها هدفها الأساسي. فحتى العلامات الكبرى في مجال الموضة، تصنّع قطعاً أساسية، عادية، وغير ملفتة للأنظار.
على المقلب الآخر ظهر تيّار يسمّى بالـAnti-Fashion، ويعلن موقفاً رافضاً لكل ما هو رائج واستهلاكي، وحتى ضد تيار الـNormcore. يعتمد هؤلاء أسلوب لباس غريب، وخارج عن المألوف، مثل نمط اللباس القوطي، لتسجيل موقف ضد الموضة الراقية.
دخلنا هنا في دوّامة: هناك أشخاص ضدّ الموضة، وآخرون ضدّهم وضدّ الموضة أيضاً. ولكلّ فئة، حججها المنطقية. فالعلامات الكبرى تستغلّ اليوم حبّ الناس للملابس البسيطة، فتروّج مثلاً لبدلة الرياضة لأنها “مريحة وعادية”. لكنك ستدركين أنّك لن تكوني قادرة على الوقوف ضد الموضة، والنزعة الاستهلاكية الطاغية عليها، حين تجدين أنّ سعر إحدى بدلات الرياضة الرائجة 250 دولار.
فحتى الثياب المضادة للموضة، ستصبح رائجة حين يعتمدها عدد كافٍ من الأشخاص وبعد أن تتمكن العلامات من استغلالها.
ليست دور الأزياء والمصممون وحدهم من يفرضون علينا سلطة الموضة وقيودها. يضاف إليهم المجتمع، والعائلة، والأصدقاء
سلطة الموضة والخالات
شخصياً، لا أحاول تسجيل موقف من أسلوبي المعتمد في اللباس، ولا أريد أن أكون متميزة. لكن في الواقع، لدي مشكلة مع الموضة منذ الصغر.
في مرحلة من مراحل مراهقتي، كانت خالتي تصطحبني لشراء الملابس. كانت علاقتي بخالتي قوية، فهي بمثابة أمّي. كانت تجبرني على شراء ملابس لا تناسب ذوقي، مثلاً بنطلون زهري! كنت أشعر كأنّ هناك حجرة فوق رأسي، وأخجل ن أن أقول لا. أشتري البنطلون ولا أرتديه إلا حين أريد مقابلتها.
كانت تعلّق على أحذيتي، وتنتقدني لأنّني لا أرتدي حذاء الباليرينا، الذي ما زال كابوساً بالنسبة إلي.
بالطبع، لا أظنّ أن خالتي تعرف كم يزعجني ذلك الأمر. إنّه تفصيل صغير، لكنه تسبّب بثقل نفسي في حياتي. كنت سعيدة حين تحرّرت منه ومنها، وصرت أذهب لأختار ملابسي بنفسي، من دون الضغط الذي خنقني طوال سنوات المراهقة.
ليست دور الأزياء والمصممون وحدهم من يفرضون علينا سلطة الموضة وقيودها. يضاف إليهم المجتمع، والعائلة، والأصدقاء.
علينا أن نتذكر أننا نأتي أولاً، ويجب ألا ترتبط خياراتنا بسلطة خارجية، بل أن تكون نابعة من ذاتنا. لا مشكلة إن كنت شخصاً عادياً، تحبين الأساسيات، لا تعرفين من الألوان إلا الأبيض والأسود، ولا تمتلكين ذوقاً مميزاً أو حسّاً في تنسيق الملابس واختيارها. المهم هو أن تكوني مرتاحة، ألا تشعري بوطأة سلطة الموضة عليك. لسنا مجبرين على شيء سوى الإنصات لأنفسنا، والقيام بما يعجبنا ويقنعنا حقاً.