رغم أنّ مسلسل “ليه لأ” يعرض على منصّة “شاهد” الإلكترونية وليس على التلفزيون، إلا أنّه جذب جمهوراً واسعاً من أجيال مختلفة، حتى تصدّرت حلقته الأخيرة نتائج البحث على الانترنت في مصر. خلق العمل حالة على مواقع التواصل، لطرحه مسألة استقلال النساء غير المتزوجات عن عائلاتهنّ، مع اختيار بطلته عاليا (أمينة خليل) الهرب من عقد قرانها، وسعيها للاستقلال عن منزل أسرتها.
لكن كانت المفاجأة أن أمي تشاهده! وجدتها تسألني إن كنت أتابع الأحداث، مضيفةً: “البطلة بتفكّرني بيكي”. لم أستسغ ذلك التشبيه. فنحن من أبناء الطبقة المتوسطة، ومن سكان حيّ السيدة زينب، فيما بطلة المسلسل ابنة أسرة محافظة من مجتمع الزمالك، أي أنها تنتمي إلى الطبقة المتوسطة العليا وما فوق. ما واجهته في حياتي من ذكورية وأبوية بدأت في المنزل ولم تنته في خيارات الدراسة وأماكن العمل، يفوق بأشواط ما تختبره عاليا.
لفت نظري أن أمي ترى تشابهاً بيننا، وناقشت معها الخيار الطبقي في المسلسل، فشوّحت بيدها وقالت: “سيبك من الطبقة، المهم إنه فيه مسلسل بيقول إنه البنت مش لازم تتجوّز بعد التلاتين، وممكن تستقل وتعمل اللي هي عايزاه”.
“ليه لأ” من تأليف ورشة سرد بإشراف مريم نعوم، وسيناريو وحوار دينا نجم ومجدي أمين وإخراج مريم أبو عوف، ومن بطولة أمينة خليل، ومحمد الشرنوبي، وهاني عادل، ومريم الخشت، وناردين فرج، وصدقي صخر، وهالة صدقي، وشيرين رضا، ومحسن محيي الدين.
بدءاً من الإعلان التجاري عن المسلسل، مروراً بأغنية المقدمة بصوت آمال ماهر، نشعر أننا أمام امرأة في حالة حرب مع المجتمع لنيل استقلالها، وأننا أمام عمل فني مشبّع بالقضايا النسوية، يتعمّق بأسبابها وعوارضها.
لماذا نريد أن نستقل أصلاً؟
أثار مسلسل “ليه لأ” جدلاً واسعاً على مواقع التواصل، لأنّه يتناول نماذج نسائية تحاول كسر الأنماط على استحياء، بدءاً من شخصية عاليا، وصولاً إلى شخصية هالة (شيرين رضا)، الخالة اللطيفة التي تشجّع عاليا على الاستقلال، لكنها في نفس الوقت خاضعة لضغط الأسرة، ولسيطرة أمها.
رغم أنها سيدة متحققة مهنياً، إلا أنّ أمها لا زالت تعاملها كأنها طالبة جامعة، لأنها لم تتزوّج رغم بلوغها سنّ الخامسة والأربعين. تقع هالة في حبّ شاب أصغر منها بخمسة أعوام، وتخوض معركة جانبية مع أهلها ومع نفسها ومع عائلته لتوافق أخيراً على الزواج منه، متحديةً كل الميراث عن فرق العمر بين المرأة والرجل.
لكن المشهد الذي كان له الصدى الأكبر على مواقع التواصل، كان مشهد تعرض صديقة عاليا رضوى (مريم الخشت) للتعنيف المعنوي من قبل خطيبها\زوجها، لأنّها وجّهت دعوة لعاليا لحضور فرحها. أظهر المشهد أسلوب السيطرة السامّة المعتاد، بطريقة ندر تصويرها على الشاشة، وانهيار رضوى حين يخيرها شريكها بين سحب الدعوة أو الغاء الزفاف. وكتبت نساء كثيرات أنّ المشهد صوّر بواقعية جحيم العلاقات السامة التي مررن بها، فيما عبّر بعض الرجال عن “إعجابهم بما يفعله الحبّ بالمرأة”.

كذلك واجه المسلسل اتهامات بتحريض الفتيات على ترك بيت الأسرة. في مقابلة مع لميس الحديدي، ترد أمينة خليل على تلك التهم قائلةً: “لا بالطبع، نحن فقط طرحنا مواضيع مهمة، والأهم هو السؤال الذي يطرحه العمل عمّا هو الحد الفاصل بين حرية الفتيات وإرادتهن واختياراتهن، وتدخّل الأهل في تفاصيل حياتهن”. وأكدت أن العمل يحث الفتيات على النزول إلى سوق العمل، وحقهنّ في اختيار الزوج. وأضافت أنّ المسلسل لا ينحاز بالكامل لشخصية عاليا، وأنّه ليس مسلسلاً نسوياً من وجهة نظر البطلة فقط، بل يعرض أيضاً وجهة نظر أمها وجدتها، ويترك الأمر للناس لكي تحدّد موقفها بنفسها.
يقارب المسلسل مسألة شائكة في المجتمع المصري والمجتمعات العربية عموماً، وهو حقّ النساء باختيار ترك منزل العائلة أو الزواج أو السفر أو غيره، والاستقلال، وتحمّل المسؤولية، وكسر الأنماط والأدوار التقليدية في المجتمع. فعندما تفكّر فتاة بممارسة ذلك الحق، والتصرّف كإنسانة كاملة الأهليّة، سيتحوّل المجتمع بأكمله إلى جهاز رقابي عليها، بدءاً من أفراد أسرتها، وصولاً إلى البواب.
في أحيان كثيرة، لا يكون الاستقلال خياراً، بل اضطراراً، سواء لوقوع عنف على المرأة من الأب أو الأخ أو غيرهم، أو لمنعها عن العمل أو الدراسة، أو لتعرّضها لاعتداءات جنسية من أحد أفراد العائلة أو الأقارب. يضاف إلى ذلك، مركزيّة القاهرة في فرص العمل والدراسية، ما يدفع بكثيرات للانتقال من الأقاليم إلى العاصمة سعياً وراء فرصة أفضل في الحياة، ما يرفضه الأهل المنتظرين للعريس للتخلّص من عبء حماية شرف الأسرة متمثلاً بغشاء البكارة.
الاختيار الطبقي
رغم الضجة التي أحدثها، يمكن القول إنّ مسلسل “ليه لأ” يتعرّض لقضايا نسوية من بعيد. يؤسس المسلسل منذ اللحظة الأولى اختياراته الطبقية، يدخلنا إلى سكن الأسرة في الزمالك، موضحاً أنها من الطبقة المتوسطة العليا، ثمّ تتوالى الاختيارات التي تفصله عن واقع أغلبية النساء في مصر.
بطلة المسلسل، عاليا، لديها ميراث عن أبيها في مصنع ملابس كبير يديره عمّها. تعمل في المصنع ولديها سيارة ودخل ثابت. آخر هدية تلقتها من والدها كانت ساعة رولكس. يظهر المسلسل أنّ الاستقلال ليس خياراً متاحاً لجميع النساء، بل لمن يمتلكن رفاهية الخروج عن النص.
يظهر العمل تسلّط الأم، ويظهر تكرار نموذج نقل السلطويّة من الجدّة إلى ابنتها وحفيدتها لدى جميع الثقافات والطبقات. لكن مستوى معيشة الشخصية الرئيسية في المسلسل، يجعل من الصعب على فتاة تعمل بائعة في محل أو حتّى موظفة في شركة خاصة، أن تتصوّر نفسها مكان عاليا، وأن يكون الاستقلال متاحاً لها أيضاً.
يكرّس المسلسل هذا المعنى في أحد مقاطع أغنية المقدمة: “اللي عاشت ملكة، مش هاتعيش وصيفة”. المفترض أن يكون المقصود استلهام القوة والشجاعة والسيطرة على المصير، خصوصاً لعاليا التي تختار العمل في وظائف دنيا، متخلية عن امتيازات وظيفتها في المصنع. يبدو المقطع كأنّه يستنكر عمل البطلة في وظائف ترفضها عائلتها، رغم أن ذلك كان أحد التطوّرات الإيجابية في مسار الشخصية.
تنتقل عاليا من الزمالك إلى وسط البلد، لتعيش في شقة واسعة ذات ديكورات حديثة، قد لا يقلّ إيجارها عن 6 أو 7 آلاف جنيه، ما يوازي 440 دولاراً تقريباً، أي ما يقارب مرتب شهر لخريج/ة جامعة بمؤهّل عالٍ، يعمل/تعمل في شركة تقدّر موظفيها ولا تقل خبرته/ا عن خمس أو ست سنوات. البواب لطيف، لا يضايقها بالأسئلة ولا بالنظرات ولا بالاستنزاف المادي مقابل سكوته عن “الوضع الغريب”، ولا بالتحرشات العابرة كونها امرأة تسكن وحدها في قلب القاهرة. لا يهتم مالك الشقة بأي شيء، لا عملها ولا العنوان في بطاقتها ولا سبب سكنها وحيدة. كل ما يهتمّ به هو الحفاظ على السجاد القيّم.
يبدو العالم وردياً فيما تنبهر عاليا بالحواري الضيقة في وسط البلد، وتنزعج منها، وتنظر إلى “الناس الغريبة” كأنها سائحة هبطت فجأة من المطار. لا تختلف وسط البلد في الواقع بذلك القدر عن الزمالك، وطبيعة عملها في مصنع، يعني أنّها تمرّ في وسط البلد في أي يوم.
كنت أريد مشاهدة الخذلان الذي واجهته وليالي الوحدة التي مرت عليّ وأنا خائفة أو وحيدة أو متشككة في قراري
الواقع أشدّ قسوة
تواجه الفتيات المقتربات من الثلاثين واقعاً صعباً، فحتى في الأسر الميسورة الحال، يعتبر قرار الاستقلال عن المنزل من دون زواج قراراً كبيراً، يتطلب قدرة على المواجهة والتأقلم والهروب، وأحياناً، القدرة على التخفّي.
فحتّى بعد تأمين المبلغ المالي اللازم لدفع الإيجار والتأمين، قد يرفض مالكو الشقق التأجير لفتيات بطاقاتهن الشخصية مسجلة في القاهرة. كذلك ينفذ أمناء الشرطة طلعات أمنية منتظمة على الشقق المؤجرة في منطقة وسط البلد، ويسألون عن سبب الإقامة في سكن مستقل إن كان منزل الأسرة في القاهرة. قد يصل الأمر حدّ تفتيش المنزل إن كان هناك أحداث سياسية تستدعي ذلك.
كذلك يعمل البواب كجزء من المنظومة الرقابيّة الذكوريّة السلطويّة، سواء عبر تبليغ مالك العقار بتفاصيل الساكنات وملبسهّن ومواعيد عودتهن من الخارج، وزوارهنّ، ومن يبيت الليلة عندهنّ، ومن ينزل من عندهنّ متأخراً. أعرف صديقة طردها الجيران من العمارة مرّة، لأنها ترتدي فساتين اعتبروها قصيرة.
تقول عفاف (32 عاماً) التي تعيش مستقلة في سكنها: “المسلسل لطيف لناحية تناول قصص وحكايات استقلال البنات، ومدى تعنّت الأهل، والصورة النمطية التي يريدون لنا أن ننصاع لها، لكن الطبقة الاجتماعية “المرتاحة” تشكل عائقاً. ربما كان ذلك خياراً انتاجياً، لبيع المسلسل، من دون الدخول في تفاصيل القضية، لكن البنات يتعرضن لواقع أكثر قسوة حين يفكرن بالخروج عن إرادة العائلة”.
إن كان الاستقلال من دون رضا الأهل – وغالباً ما يكون كذلك – تعيش الفتاة حالة قلق وخوف دائم من معرفتهم مكان إقامتها أو عملها. قد يظهر الأب أو الأخ أو حتى الأم فجأة في مكان العمل، لضربها أمام الجميع، وجرّها من شعرها لتعود إلى المنزل قهراً. وقد يتطوع أحد شركاء السكن أو المحلات المجاورة بإعلام الأهل عن تفاصيل من حياة البنت لتزداد وطأة العقاب.
تقول ندى (35 عاماً): “المسلسل واقعي ومس حكايتي، تحفظاتي أنه أظهر الحياة وردية ومليئة بالأصدقاء الداعمين والغرباء اللذين يعرضون مساعدة وعملاً فجأة. ولم يكن الأمر هكذا بالنسبة لي، كنت أريد مشاهدة الخذلان الذي واجهته وليالي الوحدة التي مرت عليّ وأنا خائفة أو وحيدة أو متشككة في قراري، كان سيكون واقعياً أكثر بالنسبة لي”.