“لم أر أولادي إلا ثلاثة أيام في الشهر، لم أستطع تقبيلهم، ولا احتضانهم، ولا اللعب معهم. أشتاق إليهم كثيراً منذ أن تركتهم عند والدتي مع دخول المستشفى حيث أعمل مرحلة استقبال المصابين بعدوى كورونا لعزلهم”.
تعمل دينا سعيد (31 عاماً) ممرضة في “مستشفى 15 مايو”، وتحدّثت لـ”خطيرة” عن تجربتها بعيداً عن أولادها، وهي تمضي ساعات وأيام طويلة بالعناية بالمصابين المعزولين.
تقول: “امتهنت التمريض تمثلاً بوالدتي التي كانت تعمل ممرضة، ومنذ بداية عملي في هذا المجال قبل 12 عاماً، لم أشهد فترة أصعب من هذه الأيام”.
تعمل دينا وزملاؤها 12 ساعة يومياً، لمدة 14 يوماً، بشكل متواصل، قبل أن تتمكن من أخذ فترة للراحة. ترتدي الملابس الواقية الثقيلة، والكمامة، وتمضي يومها مع المرضى، من دون طعام، ولا شراب، ولا حتى دخول إلى الحمام. لا يصرّح بخلع البدلة الواقية إلا في غرف مخصصة لذلك، وبطريقة محدّدة، في نهاية دوام العمل.

تعيش دينا وسواس العدوى. تتابع الأخبار يومياً عبر هاتفها، ولا يمرّ يوم من دون خبر عن إصابات جديدة في صفوف الطواقم الطبية. تمكّن الرعب منها حين أعلنت إدارة المستشفى حيث تعمل عن إصابة ممرضة من زميلاتها.
لكن ذلك ليس الهاجس الوحيد الذي يشغل دينا. فمنذ اليوم الأول في العزل، بدأت عائلة زوجها التي تسكن معها في المبنى ذاته، تتجنبها. وصل الأمر حدّ مقاطعتها، ورفض التعامل معها، خشية من العدوى، ما آلمها، وجعلها تفكر بالسكن في مكان آخر.
تقول: “أولادي مع أمي، وباتت علاقتي بهم تتلخص بدقائق المكالمات الهاتفية، بعد يوم عمل مرهق. أبكي عند كلّ مكالمة، لكنها الوسيلة الوحيدة لأطمئن عليهم، لأني لن أراهم لفترة طويلة. فبحكم البروتوكول، عليّ أن أعمل 14 يوماً، ثمّ أجري تحليلاً قبل الخروج من المستشفى، إن جاءت النتيجة سلبية، أخرج للعزل المنزلي، وأعيد التحليل مرة أخرى بعد 48 ساعة. مع تأكيد سلبية النتيجة، عليّ أن أعزل نفسي لما يقارب 7 أيام، للتأكد من أني لا أحمل الفيروس. عندها فقط أستطيع رؤية أطفالي، وأمضي معهم ثلاثة أو أربعة أيام، مع الاحتفاظ بالتباعد والتدابير الوقائية”.
يبلغ راتب دينا الشهري 2500 جنيهاً مصرياً (161 دولار تقريباً). رغم ضآلة العائد المادي، “أعمل بكامل طاقتي، حباً بعملي، وإيماناً برسالتي”، تقول. “وعدونا بمكافآت تصل إلى 20 ألف جنيه (1290 دولار) وبالفعل في شهر مارس استلمنا 4 آلاف جنيهاً، ومنذ ذلك الحين، لم نستلم شيئاً، لا بل بات لدينا مستحقات مادية متأخرة”.
في نهاية مارس الماضي، قرّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صرف مكافآت استثنائية من صندوق “تحيا مصر”، لكافة العاملين في القطاع الصحّي. فيما أقر مجلس الوزراء زيادة رواتب المهن الطبية بنسبة 75 في المئة”.
14 يوم عمل متواصل، 12 ساعة يومياً، وراتب لا يتعدى 160 دولاراً مع وعود بزيادة لم تطبق بعد… يوميات الممرضات المصريات في مستشفيات الحجر
في مستشفى الشيخ زايد في منشأة ناصر، إحدى مناطق القاهرة، تعيش الممرضة ياسمين سيد (28 عاماً) تجربة مماثلة لتجربة دينا.
عند تحويل المستشفى حيث تعمل لمكان خاص بعزل مرضى كورونا، طلب أهل ياسمين منها الامتناع عن العمل. تخبرنا: “خفت أن أصاب بالمرض، ولكن رغم موقف أسرتي السلبي، شعرت أنّه من واجبي أن أكون حاضرة في ظروف مماثلة. ذهبت إلى العمل من دون علم أسرتي، واتصلت بهم وأخبرتهم أني استلمت مهمتي في العزل الصحي، وسأغيب مدة 14 يوماً”.

التزامها بواجبها المهني، لم يحم ياسمين من الإصابة بالوسواس، وشعورها بأعراض الإصابة رغم أن تحاليلها كانت سلبية. خلال ساعات العمل الطويلة والمرهقة، تغمرها مشاعر مختلطة: خوف، قلق، ثم صبر، وأمل، تستعين بهما للتخفيف عن المرضى. كلّ ذلك بجانب تحملها الملابس الوقائية والكمامات التي تسبّب التقرحات. هذا إضافة إلى الراتب الذي لا يزيد عن 2300 جنيه، والمكافآت التي لم تسمع عنها إلا في التلفزيون.
تحكي ياسمين: “كل يوم حين أنهي عملي، وقبل أن أذهب للنوم، أطمئن على والدتي، نجري مكالمة فيديو كي تطمئن على صحتي. تسألني عشرات المرات عن طعامي ويومي وحالتي الصحية والنفسية، وغالباً ما ينتهي الاتصال بالدعاء والدموع”.
حين أنهت ياسمين ورديتها في المستشفى، خرجت للعزل الصحي المنزلي في بيت إحدى صديقاتها، ثم انتقلت إلى بيت أهلها، بعد إلحاح والدتها. “رفضت الاختلاط بأسرتي، وواصلت إجراءات الوقاية بالابتعاد عنهم، لكن أمي رفضت أن أمضي رمضان بعيداً عنهم”.
لم يخل الأمر من بعض النظرات المريبة في المحيط، ومن خشية الأشقاء على أولادهم من الممرضة في العائلة. “لكن أمي لا تهاب الاقتراب مني، وتوصل التعامل معي بشكل طبيعي، رغم التحذيرات المستمرة لها”.
أصيب أحد زملاء ياسمين، وهو رجل خمسيني، بالعدوى. “أصابني الخبر بالحزن الشديد عليه، وأضيف إليه رعب وشكّ في كلّ شيء، حتى الطعام الذي أتناوله”.
تتحدث ياسمين عن النقص الشديد في الطواقم الطبية، خاصة مع ارتفاع الإصابات في مصر خلال الأسابيع الماضية. تقول: “إن افترضنا أن متوسط الحالات 20 مريضاً في القسم الواحد، أي ما يعادل 120 مريضاً في المستشفى، مقابل 40 ممرض وممرضة، ينقسمون إلى دوريتين من 12 ساعة، لك أن تتخيلي النقص”.
كما تشير إلى نقص المستلزمات الطبية، إضافة إلى نقص بعض الأدوية مثل أدوية السعال. “بعض الممرضين يشترون أدوية السعال من الصيدليات الخارجية للمرضى على نفقاتهم الخاصة”.
“بعض الممرضين يشترون أدوية السعال من الصيدليات الخارجية للمرضى على نفقاتهم الخاصة”
في مستشفى حميات حلوان المختص باستقبال الحالات المشتبه بإصابتها بفيروس كورونا، تعمل الممرضة همت مصطفى فهمي (30 عاماً). وبحكم عملها، بدأت باتباع خطوات الوقاية وخاصة التباعد الاجتماعي، منذ ظهور الإصابة الأولى بفيروس كورونا في مصر، منتصف فبراير الماضي.
تقول لـ”خطيرة”: لا أنكر أنني أرتبك مع تأكيد كلّ إصابة جديدة، لكن مشاعر الحزن على المريض تحلّ مكان الارتباك”.
تمضي همت ما بين 8 و12 ساعة في المستشفى، وأحياناً يمتدّ عملها حتى صباح اليوم التالي. “خلال الأيام الأولى لظهور الفيروس في مصر، كان الشغل الشاغل للطاقم الطبي بأكمله، لكن مع مرور الوقت، تأقلمنا، وعادت أحاديثنا إلى مواضيعها المرحة من جديد، ربما نجد في ذلك ملاذاً من الضرر النفسي الذي يصيبنا أثناء العمل”.

نظراً لراتبها الضئيل، تعمل همت في أكثر من كان، لتسدّ تكاليف المعيشة الباهظة. رغم ذلك، تشعر بسعادة بالغة، مع كل حالة شفاء أو تحليل سلبي لمشتبه بإصابته بالفيروس.
مثل دينا، تركت همت ولديها برعاية والدتها. توقفت عن احتضانهم، وعن ممارسة الأنشطة اليومية المعتادة معهم. ومع إقفال المدارس، شعرت أن الخطر يحيط بهم، وأن الخيار الأفضل هو بقاؤهم مع جدتهم. تقول: “أزور والدتي كلّ 3 أو 4 أيام، لأطمئن عليها وعلى الأولاد، يقولان لي “وحشتينا أوي يا ماما، نفسنا نحضنك”، لكني أذكرهم بما اتفقنا عليه، فيكتفيان بالقبلة الطائرة”.
يفوق عدد النساء في طواقم التمريض في مصر، عدد الرجال، بنسبة 10 إلى 1
لاقت همت الدعم من زوجها، خلال هذه الفترة العصيبة. تقول: “يقدر زوجي عملي ويرى فيه نبلاً وتضحية. يتحمّل ساعات العمل الطويلة، ويقول لي إنّه فخور بي”. أمّا جيرانها، فقرروا الابتعاد عنها، لكن ذلك لا يزعجها، برأيها ذلك أفضل لهم ولها.
يفوق عدد النساء في طواقم التمريض في مصر، عدد الرجال، بنسبة 10 إلى 1، بحسب أرقام الإسكوا. همت، دينا، وياسمين، ثلاث قصص من بين آلاف. يتمنين أن يغير المجتمع نظرته للممرضات، وينظر بعين مختلفة إلى تضحياتهن، بعد سنوات من التهميش.