لم يعد خيار عدم الإنجاب أمراً استثنائياً في الكثير من دول العالم، لكن قبوله في المجتمع العربي صعب. قد يتعاطف الناس مع امرأة حالت عوامل مرضية بينها وبين الأمومة، أمّا أن تختار ذلك برضاها، فذلك شبه مستحيل.
نساء لم يكن الانجاب بالنسبة لهنّ خياراً، أخريات جربن مرّة واكتفين، وغيرهنّ لا يردن الإنجاب ولا يشتهين الأطفال أساساً… “خطيرة” تحدّثت إليهنّ.
سميرة: ماذا لو؟
“تزوجت بعمر صغير، وكان زوجي يخبّئ حبوب منع الحمل عنّي، مع أني أخبرته عند خطوبتنا رغبتي بعدم الإنجاب، لكنه كان يعدّني صغيرة، ولا أعرف ماذا أريد”. تتذكّر سميرة ذلك، وقد باتت اليوم في الخامسة والستين. تضحك لأنّها لم تكن ترغب بإنجاب طفل واحد، فإذا بها تنجب ثمانية.
تخبرني أنّها لم تكن تعرف كيف تتصرّف، فلا تجد نفسها إلا وقد حملت. كانت في الثامنة عشرة حين حملت للمرة الأولى، وتقول إنّ فرصة إكمال التعليم وحتى العمل وتحقيق الاستقلال المادي، لم تكن متاحة للكثير من بنات جيلها في ذلك الوقت.
تقول سميرة إنّ خيالها يسرح أحياناً، ويأخذها إلى الحياة التي كانت ستعيشها لو أكملت تعليمها، إذ كانت متفوّقة في المدرسة، وتحب التمثيل، وتمتلك طاقة كبيرة… ولكنها تحبّ أولادها كثيراً، والحياة تمضي.
ديما: مرّة واحدة تكفي
“الطفل مثل الوشم على الوجه، قرار لا يمكنك الاختباء منه أو الرجوع عنه، ويبقى ملاصقاً لك مدى الحياة”، تقول ديما (34 عاماً)، حين أسألُها عن الانجاب. ابنتها اليوم في التاسعة، لكنّها اتخذت القرار بعدم الإنجاب مرّة أخرى، وإن كلّفها الأمر أن تعتزل الارتباط من أساسه.
تقول: “حين أنجبتُ ابنتي كنت صغيرة ولم أكن واعية لمدى المسؤولية المترتبة عن قراري. لا تعطي مجتمعاتنا الفتاة فرصة لتفكر إن كانت تريد الإنجاب أم لا. إنّه ببساطة أمر متوقع منها، وتربى عليه منذ الصغر، بسبب قدرتها الفيزيولوجية على الحمل. لا أحد يسأل إن كانت قادرة نفسياً على إنجاب إنسان وتربيته، وإن كانت تريد ذلك العبء الكبير في حياتها أم لا. تفرغت لتربية ابنتي سبع سنوات كاملة، والآن أريد التركيز على نفسي ومهنتي”.
ترى ديما أنّ الأمومة تجربة عظيمة، لكنها ليست سهلة، ولا يمكن الاستهانة بمسؤولية جلب كائن إلى الحياة، خصوصاً في عالم كالذي نعيش فيه اليوم.
نتوق كنساء إلى عالم لا نحتاج فيه إلى تبرير خياراتنا الإنجابية، وألا توضع مصائرنا في ميزان المفاضلة بين منجبات وغير منجبات
تعيش ديما مع ابنتها في دولة أوروبية حيث لا يُنظر إلى عدم الانجاب كخيار استثنائي، ولا يلقى رفضاً في المجتمع. في المقابل، لا يزال الإنجاب في الثقافة العربية من واجبات النساء المقدسة. إن لم تنجب المرأة، فلا بدّ أنّ سبباً صحياً قد منعها. من الصعب أن يقتنع كثر بأن عدم الإنجاب يمكن أن يكون خيار المرأة الطوعي.
سارة: استثمار أناني
“مين بده يشيل كبرتك؟”، “في طعم للحياة بدون ولاد؟”، “الزواج بصير ممل من غير أطفال!”. عبارات نسمعها كثيراً. “هناك فئة من الناس يختارون إنجاب الأطفال لكي يهتموا بهم حين يتقدمون في السن. أرى خيار الإنجاب هذا استثماراً أنانياً”، تقول سارة (43 عاماً) التي اختارت عدم الإنجاب.
تضيف: “فكرت بالموضوع كثيراً وسألت نفسي مراراً عن دافعي للإنجاب. هل هو نابع من رغبة شخصية في تجربة شعور الأمومة، أو نابع من الضغوط الاجتماعية والخوف على صورتي الأنثوية في مجتمع يربط الأنوثة بالإنجاب، أو بسبب الخوف من الوحدة عند التقدم بالعمر؟ أتمنى أن تسأل كل امرأة نفسها هذه الأسئلة قبل الإنجاب”.
تعتبر سارة إنها بلغت مرحلة من السلام الداخلي تجاه عدم الإنجاب وتقول: “الطاقة الأنثوية طاقة خلق وإبداع ويمكن للمرأة أن توجهها لخلق الحياة كيفما أرادت”.
جيسي: لا أحبّ الأطفال
تشعر جيسي (32 عاماً) بالخجل أحياناً لأنها تضطر لمجاملة الآخرين حين يرونها صور أطفالهم. “لم أحبّ الأطفال في حياتي. لا أكرههم بالتأكيد، ولكني أفضل ألا أتواجد معهم في نفس المكان. أعتقد أن كثراً يطلقون الأحكام عليّ بسبب ذلك”.
لا ترغب جيسي بالإنجاب، رغم مرور سنوات على زواجها. خيار الثنائي غريب بالنسبة للمحيطين بهما، ما يضطرهما أحياناً لتحمّل معاملة الآخرين لهما كأنّهما من كوكب آخر.
أكثر ما يضايق جيسي ضغوط النساء الأخريات عليها. “بالنسبة لي أصعب ما في الموضوع هو التعامل مع النساء في مجتمعنا، للأسف”. تقول إنّ بعضهن يلاحقنها بنظرات لائمة، وأخريات، وخاصةً الأمهات، يعاملنها بشفقة على اعتبار أنّها حرمت من تلك “النعمة”.
هي ليست ضد الإنجاب ولكنها ضدّ اعتباره “تحصيلاً حاصلاً”، فأقلّ ما يمكن أن تفعله المرأة هو التفكير بنفسها، وإن كان تريد طفلاً أم لا، ولماذا. “برأيي يبدو التبني خياراً منطقياً أكثر من الإنجاب، قد ألجأ إليه إن صرت جاهزة. ولكني اليوم سعيدة بحياتي كما هي، وخاصة أنها بدون أطفال”.
ما جنيتُ على أحد
رغم اختلاف المقاربات الاجتماعية لمسألة الإنجاب، تشير إحصائيات البنك الدولي إلى تناقص عدد النساء الراغبات بالإنجاب في العالم إجمالاً، خلال السنوات الثلاثين الماضية. على سبيل المثال، في عام 1990 بلغ معدّل الخصوبة لكلّ امرأة في الولايات المتحدة 2.8 (أي ولدان إلى ثلاثة لكلّ امرأة)، أما عام 2017 فبلغ 1.77. وكان معدّل الخصوبة في السعودية 5.91 عام 1990، وبلغ 2.37 عام 2017.

خيار عدم الإنجاب شخصي وحميم، إلا أن لا مكان للخصوصيّة في مجتمع يرى المرأة “ناقصة” من دون أمومة، مهما بلغت إنجازاتها المهنية أو الدراسيّة. لكن رفض الغالبية في مجتمعنا لعدم الإنجاب، لا ينفي وجود نقاش حوله، خاصة على مواقع التواصل. على فيسبوك، يتابع أكثر من 80 ألف شخص صفحة “ضد التناسل” التي انطلقت عام 2016.
يقول آدمن الصفحة: “هدفي من الصفحة كان التعريف بـ”اللا إنجابيّة”، واختبار صداها في العالم العربي، لإعادة النظر بالإنجاب والتساؤل عن جدواه ومدى أخلاقيّته. مع الوقت تحوّلت الصفحة إلى ملاذ لمعتنقي الفكرة العرب، ومتنفّس لهم”.
اهتمّ الفلاسفة بـ”اللا انجابية” كقضية أخلاقية، ومن بينهم أبو العلاء المعري (973-1057) الذي لم ينجب، وأوصى أن يكتب على قبره بيت الشعر الشهير “هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد”. يرى المقتنعون بأخلاقية عدم الإنجاب أنّ البشرية تواجه ما يكفي من أزمات، وإنجاب المزيد من الأطفال سيزيدها سوءاً، ولن يوفّر للأجيال المستقبلية نوعية حياة جيدة، خصوصاً مع التحديات البيئية والاقتصادية.
مهما كانت الخيارات والدوافع، أعتقدُ أننا نتوق كنساء إلى عالم لا نحتاج فيه إلى تبرير خياراتنا الإنجابية، وألا توضع مصائرنا في ميزان المفاضلة بين منجبات وغير منجبات.