تميّزت انتفاضة 17 تشرين في لبنان باتساع حيّز الفئات المهمشة عموماً، وبروز الموقع السياسي المحوري للنساء خصوصاً. لطالما كانت الأخيرات مُبعدات عن مواقع القرار في ظل مفهوم القيادة السياسية التقليدية في لبنان، المرتبطة بمفهوم الزعامة، حيث الزعيم رجل يتمتع بمجموعة امتيازات.
مع بروز شعار “لا قيادة لا تفاوض”، كأحد أبرز شعارات الانتفاضة بدا كأن الدور السياسي للنساء يتصاعد، بغياب صورة القيادة التقليدية عن الانتفاضة.
هل أثر غياب القيادة على اتساع دور النساء في الانتفاضة؟ للإجابة على هذا السؤال تحدّثنا إلى نساء فاعلات سياسياً، في بيروت والمناطق.
“لا قيادة، لا سقف”
“بنِضالنا النسوي الطويل، استرجعنا الساحات العامة، وأعلنّا عن موقعنا المساوي في سرّاء هذه الثورة وضرّائها”. بهذه الكلمات، يبدأ البيان الذي دعت فيه جبهة مؤلفة من مجموعات نسوية ناشطة في بيروت، إلى مسيرة جابت شوارع العاصمة اللبنانية باتجاه ساحة رياض الصلح، في 3 نوفمبر 2019، رافعةً شعار “طالعة تسقِّط نظام” و”ثورتنا نسوية”.
تبع تلك المسيرة مسيرات في المناطق، خصوصاً في صور وطرابلس، في أيام لاحقة من الشهر ذاته.
اكتسبت المسيرة رمزية لناحية بلورة موقع النساء السياسي ومواقفهن في مواجهة النظام، إضافة إلى مطالبهن الأساسية ضدّ المنظومة الأبوية.
يوم المسيرة، شعرت ديالا من بيروت أنّ الأدوار تبدّلت، إذ كانت الساحة تنتظر وصول النساء. تربط ديالا بين هذه الرمزية وبين عدم وجود قيادة موحَّدة للانتفاضة، معتبرةً أن العكس، أي وجود قيادة، “ما كان ليلغي احتمال حصول المسيرة، لكنها كانت ستخضع لتأطير على صعيد الطروحات وتحديد سلّم أولويات”.
يتقاطع ما تقوله ديالا مع كلام لمى غندور من منطقة صور، حيث نظّمت مسيرة نسوية بعد مسيرة بيروت بأسبوع. تشير لمى إلى التعليقات التي واكبت تنظيم “المسيرة النسوية”، وتنقل عن أحد الأشخاص المؤثرين والمحسوب ضمن “القياديين في ساحة صور” قوله: “إلا ما عنّدتوا بدكن تعملوا المسيرة، الله يمرّق هالنهار على خير”، في إشارة إلى عدم رضاه عن حصولها، وتخوّفه من نتائجها.
كان الرأي السائد لدى عدد من “القياديين” يميل إلى ضروة تجنّب رفع شعارات ضد الطائفية والأبوية والذكورية، تلافياً لوقوع إشكالات مع مناصري أحد الأحزاب النافذة، كما جرت محاولة لإقناع النساء اللواتي نظّمن المسيرة تلافي المرور أمام مبنى المحكمة الجعفرية، وهي محكمة للأحوال الشخصية للطائفة الشيعي.
وفقاً للمى، عرفت صور خلال الانتفاضة، شكلاً من أشكال القيادة، حَكَم التحركات في المدينة، وبدأت تتضّح معالمه مع الأسبوع الثاني. “في الأيام الثلاثة الأولى من الانتفاضة كانت حرية التصرّف عند جميع الأفراد هي الأساس. وفقاً لوصف لمى كان “كلّ منّا يستطيع التعبير وإطلاق الشعارات من دون سقف”. حصل التحوّل عندما نزل مناصرون لأحزاب في السلطة إلى الشارع للاعتداء على المتظاهرين، عندها بدأت تنعقد اجتماعات وتظهر مجموعات تحوّلت إلى صاحبة القرار، المشترَك بينها أن عنصر الشباب كان غائباً وفي حال حضوره كان يحضر بشرط ألا يعترض، وخلال وقت قصير كانت تُتَّخذ القرارات التي باتت سرية وأصبح هناك تحديد للممنوع والمسموح”. تضيف لمى: “لم يقولوا إنهم قيادة، ولكنهم مارسوا السلطات والصلاحيات”.
“قيادة” الميكروفون
هذا التفاوت في رمزية المسيرة بين بيروت من جهة وصور من جهة أخرى، يمتد ليطال تفاصيل أخرى. تتذكّر لمى: “مرّة كان لديّ ما أريد التعبير عنه، وطالبت مراراً بالمايكروفون حتى ثار غضبي من تهميشي. وقتها تدخّل شاب وطلب أن يحصل عليه فأعطوه له، فمرّره لي”. موقف يظهر المعايير المزدوجة، في سياق حاجة الناس لإسماع “صوتهم”، وصعوبة الأمر بالنسبة للنساء.
كان غياب قيادة مسؤولة عن تنسيق التحركات السبب الأساسي خلف حماس فرح البابا للانخراط بفعالية في انتفاضة 17 تشرين. تقول فرح إنه من المعتاد في التحركات التي تنظمها أحزاب سياسية تقليدية أو مجموعات معارضة، تقييد “المواضيع التي يمكن الكلام عنها والأولويات وكيفية مقاربتها ووضع حدود لكل مقاربة تقاطعية خصوصاً، لا بل كنا كنسويات نتعرّض للسخرية والتنمر عند طرحنا المقاربات”.
كان لميزة غياب القيادة أثر سلبي أيضاَ، إذ تشكّلت “قيادة من نوع آخر”، يتمتع بها “من يسيطر على سبيكر (مكبر الصوت)، أو عدد أكبر من السبيكرات”، يكون صاحب الصوت الأعلى وبالتالي يتمكن من السيطرة الأوسع على شعارات الساحة”. في مرات عديدة “بينما كنا نهتف للاجئين والعابرات يأتون لإسكاتنا”.
كانت النسويات يتفاعلن بطرق مختلفة، عند مقابلتهنّ بسلوكيات مماثلة. تقول فرح: “أحياناً كنا نقرر أن نذهب للتظاهر في مكان آخر”، وأحياناً أخرى بادرت نساء إلى تأليف هتافات صيغتها كوميدية أو هزلية، وكانت “جذابة لكثير من الناس ففتحت الباب لنجلس معهم ونبدأ بجلسات حوارية تتعلّق بالعاملات المهاجرات والعنصرية واللاجئين وكل القضايا التي تصنّف على أنها اجتماعية وليست سياسية”.
في هذا السياق تقول روان ناصيف أن “الأغاني هي الصوت لذلك هي من الأدوات الأهم”. لأن الصوت “هو وجود”. تعبّر روان عن إعجابها بالأغنيات التي ألّفتها النسويات، وذلك لكونها “سهلة الحفظ وشكّلت أداة لإيصال الفكرة الاقتصادية والمعيشية وربطها بأمور أخرى”، بالتالي تظهير التقاطعية بين القضايا.
من هنا تعتبر روان أن “غياب القائد لم يؤثر حصراً على دور النساء، بل أيضاً على المجموعات المعارضة الصغيرة التي ما كانت لتعتبر أنها مجموعات سياسية، وليست فقط مطلبية، وما كانت لتطرح أسئلة تتعلق بالنظام السياسي نفسه وإسقاط النظام، لو كان هناك قيادة هرميّة”.
هذا ما تؤكده ندى ناصيف من الشوف: “لو تشكّلت قيادة للثورة لكانت بالطبع في مجتمعنا الذكوري مؤلَّفة من رجال، كانت مطالبنا ستُهمش، أقله لن تكون مطالب النساء بنفس الأهمية”. ففي البداية كان “شعار ’على الأبوية ثورة‘، محل انتقادات كثيرة”. وتضيف أن “القيادة تعني وجود عناوين، وعدم وجود قيادة يسمح ببروز المطالب الأهم بالنسبة إلى الناس”.
بالنتيجة، بغياب “الشكل الزعامي للقيادة”، كان ممكناً أن يرتفع في الشوف شعار “ثوري يا بنت الشوف ثوري، على النظام الذكوري”، وأيضاً كان ممكناً ترداد “على التفقير ثورة/ على الأبوية ثورة/ على التجويع ثورة”، من دون تحديد أولويات بين هذه الأمور، كما تروي ندى.
الرجال يتصدرون الإعلام
تضيء غنى قدور من عكار على مساحة أخرى للتعبير يسيطر عليها الرجال، وهي الإعلام. تقول: “بقِيت خلال الأيام الأربعة الأولى أعطي تصريحات للإعلام”. كان ذلك في سياق مشاركتها بقطع الطرقات. بعد ذلك حصل اتفاق جماعي على بعض الوجوه لتتولى الحديث الإعلامي. وللمفارقة، فإن الوجه الأبرز كان شاباً ثلاثينياً. تجيب غنى عن سؤال حول إمكانية أن يكون مكان الشاب المذكور امرأة، بالقول: “لم يُثَر الموضوع، اختياره حصل بالإجماع إذ أننا اعتدنا على ظهوره، الموضوع لم يُناقَش”.
تروي غنى أنها لم تعد تظهر في الإعلام منذ اختير الشاب المذكور، وتردّ ذلك إلى كونها “لا تحب الظهور”، لكنها تؤكّد أنها لطالما كانت شريكة في “إعداد البيانات”.
لا تبدو عدم رغبة غنى بالظهور الإعلامي غريبة في سياق الضغط الذي تتعرض له النساء في هذه المواقف. تشير فرح مثلاً إلى أنها عمدت إلى حساب أوقات الكلام التي تمنح للرجل مقابل الأوقات التي تمنح للنساء في برنامج سياسي رائج على محطة لبنانية، ليتضح لها أنه “في نفس الحلقة منحت إحدى النساء القياديات والتي أسست واحدة من أبرز المجموعات بعد 17 تشرين، 10 دقائق فقط، مقابل 40 دقيقة للضيف المعارض الذي يتمتع بسمات الزعامة”.
بالعودة إلى عكار، تقول غنى: “المواضيع المتصلة بحضور النساء ودورهن السياسي لم تناقَش على صوت عالٍ، لكن في اليوم العالمي للمرأة، أخرجنا الرجال من الخيمة وأجرينا حلقة نقاش بين النساء حصراً، ولم تحصل أي معارضة”.
من جهتها تقول ديالا: “كنتُ راديكالية في دفاعي عن مبدأ ’لا قيادة’ فالقيادة هي مجموعة من الأفراد الذين انتدبوا أنفسهم للتفاوض والحديث باسم الناس، والقيادة تلقائياً تتحوّل إلى أداة لسرقة الأصوات المُهمَّشة”. تضيف: “لقد اتّصل رفض القيادة بشعور متراكم بأن صوتنا مسروق في ظل تجربتنا السيئة مع السلطة”.
الزعامة أم القيادة؟
تتفق الناشطات اللواتي تحدثنا معهنّ، على استبعاد احتمال تولي نسويات لمواقع قيادية لو تشكلت قيادة في المرحلة الفائتة. لكنهنّ يؤكدن على أهمية تشكّل قيادة للانتفاضة في مرحلة ما، على أن تكون بمعايير مختلفة عما يألفه الرأي العام حول المصطلح.
تميّز بادية فحص من النبطية بين “الزعامة والقيادة”. تقول إن كل ثورة بحاجة إلى قيادة ولكن ليس إلى “القائد الواحد”. تضيف أن “الثورة بحاجة إلى قيادة أفقية، وبعد 17 تشرين انتهت سردية الزعيم، وأكبر دليل أنهم (السلطة) عيّنوا ست وزيرات في الحكومة لإرضاء المزاج الشعبي”. وتقول بادية إنّ المرأة “أجرأ في تهشيم صورة الزعيم من الرجل، لأنها ظلمت من تلك الصورة”.
ينطبق كلام بادية، مثلاً، على الدور الذي لعبته ماري روز رحمة في سياق إطلاق “مساحة نقاش” في ساحة العازرية وسط بيروت منذ الأسبوع الأول للانتفاضة، وتحمّلها مسؤولية استمرار حلقات النقاش ضمن خيمة جمعت عدداً من المجموعات السياسية المختلفة.
وضعت ماري روز آلية لإدارة مساحة الكلام بصورة متوازنة: “كنت حريصة كل الوقت ألا يسيطر الرجال على مساحات الكلام والنقاش من خلال الإطالة أو المقاطعة، وهو أمر يفعلونه دوماً”. ما تحتاجه “الثورة” وفقاً لماري روز هو “قيادة أفقية، تشاركية، تؤمن تمثيلاً فعالاً ومتجانساً للجميع وتحترم معايير المساواة الجندرية”. بعد 17 تشرين “لا اتخيل أي قيادة بلا نساء”، تؤكد.
فرضتُ نفسي
غنى قدور من عكار، لعبت أيضاً دوراً قيادياً، لكنه يختلف عما تمكّنت النساء في بيروت من فرضه. تصف غنى الحالة في عكار بأنها قائمة على توازن وقيادة موزّعة بين الرجل الذي يتولى الظهور والخطابة والمرأة التي تتولى تحفيز النساء.
اختارت غنى أن تلعب دور “صلة الوصل (بين خيمة الاعتصام) وبقية النساء”، لتحفزهن على المشاركة في حلقة نقاش، أو قطع طريق أو تسكير مؤسسات. وهنا نلاحظ أن الدور الذي تلعبه غنى يؤسس لتغيير في المعادلة القائمة حالياً، خاصةً أنّ دور الرجل القيادي والنضالي لم يكن خاضعاً لأي نقاش، فيما دور المرأة احتاج إلى نضال خاضته غنى؛ أو كما تقول: “فرضت نفسي”. تنقل عن صديق لها قوله، إنّه بات “يصدّق بالمساواة”، بعدما رآها شريكة في قطع الطرقات.
يظهر أن انخراط النساء بقطع الطرقات كان له أثر كبير على الناشطات وقدرتهن على المشاركة في القرارات عموماً. فما تقوله غنى يتقاطع مع تجربة روان في بيروت. تقول الأخيرة “انطلاقاً من شخصيتي الديبلوماسية كان دوري واضحاً لجهة التعامل مع القوى الأمنية ومكافحة الشغب في حال حاولوا فتح الطريق”. الأمر نفسه بالنسبة إلى “مجموعات أخرى تأتي للمشاركة بقطع الطريق، نحن كنا نلتزم بترك خط مفتوح للمستشفيات، ففي حال حاولت مجموعات أخرى إقفاله كنت أتدخل وأتمكن من إقناعهم أن يتوجهوا إلى نقطة مختلفة لقطعها. تعتبر روان أن النساء يتعاملن طوال الوقت مع أمور حياتهن وتفاصيلها بصورة سياسية: “نحن كنساء عموماً لا نسيطر على المساحات ولا نطرد أحد من مساحة منطقتنا (مساحة سيطرة)”.
“كلنا قائدات الثورة”
إلى جانب قطع الطرقات برز منذ 17 تشرين شعار “الثورة أنثى”، الذي يتناول حضور النساء في الثورة بصيغة اشكالية. تشير روان إلى تحفظاتها على الشعار والوجه الذكوري الذي يحمله، لا سيما لجهة دفع النساء الى الخطوط الأمامية من منطلق الصورة النمطية المتصلة “بلطافة النساء التي تمنع عنف الرجال”. لكنها بالمقابل تفضل إلقاء الضوء على بعض النتائج الايجابية. فما حصل بالواقع هو أن “عدداً من النساء ليلة 17 تشرين شكّلن بطريقة عفوية سلسلة فصلت بين المتظاهرين وأشخاص حاولوا الاعتداء عليهم”.
بالنسبة إلى روان، دفعت تلك الخطوة العديد من “النساء غير النسويات إلى الشعور أنّ لهن دوراً أساسياً، كما أعطت أهمية لحضورنا”. تحمّل النساء لهذه المسؤولية ارتبط تبعاً لروان “بقدرتهنّ على التفاوض التي شكّلت مرتكزاً لحل العديد من الإشكالات، وكانت بهذا المعنى نقطة قوة”.
انخراط روان بقطع الطرقات لم يكن بابها إلى الاجتماعات التنظيمية، إنما المجهود الذي بذلته لإبراز دورها. كانت تتوجّه إلى حلقات النقاش وتطلب الكلام لتخبر الموجودين أنها ضمن مجموعة تقطع الطرقات، في حال كان أي شخص مهتم للتواصل معها، هكذا “بات الناس يقولون لبعضهم إذا كنت تريد تسكير الطرقات تكلّم مع روان”.
هكذا أصبحت روان عنصراَ أساسياً في الاجتماعات المتصلة بقطع الطرقات، والتي كانت تحصل بشكل أساسي بين دائرة من الرجال. تقول: “كنت أعمد إلى لفت النظر إلى غياب النساء عن الاجتماع، وكنا نحرص أن تتمثّل مجموعتي بالنساء فقط، ونطلب من المجموعات الأخرى أن يلتزموا بمناصفة التمثيل بين الرجال والنساء”. تمكنت بذلك من فرض شروط في الاجتماعات وكسر طبيعتها الذكورية.
تعتقد روان أنه في لحظة كان “كل واحد في الشارع لديه شعور أنه قائد الثورة، في هذه اللحظة لو خرجت قيادات كانت ستضم شخصيات خطابها نسوي ولكنها غير نسوية، ولو حصل الأمر كذلك كان سيصعب علينا محاسبة هذه القيادات.”
تتفق فرح مع الرأي القائل بأنّ احتمال بروز نسويات في القيادة، كان وراداً، وليس فقط أشخاصاً يرددون خطاباً نسوياً. لكنّها تشير إلى أنّ “هذا السيناريو لم يعد لديه محلّ الآن، وتراجعت احتمالاته مع تفاقم الأزمة الاقتصادية”. وتضيف: “إذا كان لا بد من قيادة فلا بد أن يحصل ذلك بالتوازي مع وجود جبهة نسوية. سوف تولد حاجة لخلق جبهة نسوية أو قيادة تضغط على السلطة وعلى المجموعات السياسية لتمرير أجندتها، ولدي قناعة أن المجموعات السياسية بشكلها الحالي لا تستطيع أن تحمل القضايا النسوية، ولكنها تستطيع أن تحمي مكتسباتها. يجب أن نحافظ على كون النضال النسوي هو جزء من النضال العام ولكن أيضاً لديه هويته المنفصلة”.
تراكم نسوي
عند الحديث عن التراكمات المؤدية إلى لحظة 17 تشرين، يحكى حصراً عن تحركات مطلبية مشابهة، مثل تظاهرات إسقاط النظام الطائفي عام 2011، وحراك النفايات عام 2015. ولكن، تُغيّب عن هذه السردية التحركات النسوية السابقة، رغم اتصالها العضوي والعميق بالشكل الذي اتخذته انتفاضة خريف 2019. في هذا الإطار، يمكن التذكير بمظاهرات نسويّة بارزة، من بينها، على سبيل المثال لا الحصر مسيرة اليوم العالمي للنساء لعام 2017 بعنوان “مطالبنا متعددة، نضالنا واحد”، ونظيرتها لعام 2018 بعنوان “العدالة الاقتصادية قضية نسوية”، إضافة إلى مسيرات “طالعات” التي جابت المخيمات الفلسطينية وقد حصلت على بعد أيام قليلة من انطلاق الانتفاضة.
يظهر التشابه بين المفاهيم الأساسية التي أرستها تلك التحركات، ومضمون الخطاب السياسي الذي بلغته انتفاضة 17 تشرين، وشكل عملها القاعدي اللامركزي.
لذلك يمكن القول إنّ الحراك النسوي في لبنان كان له أثر مباشر في الانتفاضة، والشكل الذي اتخذته. ويظهر ذلك بشكل واضح من خلال الدور الذي لعبه “البلوك النسوي”، وضمّ مجموعات نسوية عدّة.
تبعاً لفرح، حافظت تلك المجموعات على سقف سياسي يتذكّر فئة أوسع من الناس لفترة مديدة من الانتفاضة من خلال “النزول بمطالب حول الحضانة، والأحوال الشخصية، واللباس، وحتى الكلام عن الأجور والاقتصاد. كان لهذه الجبهة النسوية دور أساسي في الحفاظ على تقاطعية المطالب، وتثبيت ضرورة شمول اللاجئين والعاملات المهاجرات وكل الفئات الاجتماعية بالسياسات التي ستوضع للتعامل مع الأزمة”.
الواقع بعيون النساء
النظر من خلال عيون النساء، يسمح بمراقبة أثر تاريخهن النضالي، على إرساء مساحات أوسع لحضورهن ولتثبيت سياسات أكثر نسوية.
تتحدث بادية فحص من النبطية عن بعض المعايير المشتركة بين النساء اللواتي برزن كقياديات في الساحة. تحكي عن “سلام”، التي منعت بجسدها مرور سيارة كانت تتجه لتدمير خيمة. “وقفت أمام السيارة، وقالت له (بتطلع على جثتي)”.
تقول بادية إن رفيقتها “استندت إلى حضورها ونضالها المتراكم، وتاريخها وتاريخ عائلتها، ووقفت ككتلة متكاملة أمام السيارة ومنعتها. تضيف: “المرأة تشعر بقدرتها على القيادة وتكون جاهزة في هذه اللحظة للتضحية، تماماً كاللحظة التي تتبنى فيها المرأة الأمومة، حينها لا تعود تحتسب للسهر والتعب حساب”.
تعتبر بادية أن النساء اللواتي يتمتعن بامتيازات مماثلة في مجتمعنا، يتحمّلن مسؤولية لـ”تثبيت الأسس الديمقراطية، ويفتحن الطريق أمام أخريات لتولي المسؤوليات في نظام عادل”.
في النبطية “تخطت النساء في 17 تشرين الجو الضاغط في الطائفة (الشيعية) من خلال بروزهن بغير الصورة النمطية المقدّمة عنهن لجهة السلوك واللباس، فأظهرن الصورة الأخرى: ترقص وتغني وهي سافرة الرأس”، تقول بادية. “لقد تكلّمنا في قضايانا وواجهنا رجال الدين وجرّدناهم بكل جرأة، نحن حاربنا البطل”.
يقابل معيار التاريخ النضالي، الذي يتصل بوجدان أهل الجنوب اللبناني، معيار آخر بارز في منطقة الشوف. تقول ندى إن “مسألة حضور النساء ودورهن لم يكن موضع نقاش، لكننا كنا نقول أننا نقف خلف الأمهات”. تربط ندى هذا المعيار بـ”النظرة التقليدية للأم في الشوف، أنها الصلبة والمرجع والتي تعرف”. تضيف أن “دور الأم أكبر كلما كانت أماً لأمهات أكثر، فالجدة دورها مبجّل، إنها محورية في سرد قصتنا (تاريخنا) وهي التي تحفظها”.
تلتفت غنى قدور إلى امتيازاتها عندما تشرح دورها المحوري في خيمة حلبا: “إضافة إلى الجهد الشخصي، تحضر الامتيازات الشخصية، تحديداً المساحة التي تمنحها العائلة للفتيات والقيود المفروضة عليهن”. مثلها روان التي استفادت من غياب الأحكام المسبقة عليها: “كنت قد عدت حديثاً إلى لبنان، لم أكن أعرف الكثير من الناس. كوني لم أكن محسوبة على أيّ طرف سياسي سهّل الأمور كثيراً علي”.
لعبت النساء دوراً مميّزاً خلال ثورة 17 تشرين، إلا أن قضاياهن لا تزال ضمن القضايا التي تسهل المساومة عليها والتنازل عنها. يعود ذلك إلى أن صورة القيادة لم تتبدل بشكل جذري، ولا تزال في طور التطوّر حتى تصبح ملائمة ومؤاتية للرؤية النسوية العادلة.