وداعاً يا بطلة
سحر مندور
شيرين هادئة مهما ارتفع ضجيج الظلم حولها، تنقل هدوءها لنا، نحن الجالسات خلف الشاشة، في مستهل عشرينياتنا، دماؤنا تنبض في عروقنا على إيقاع الإنتفاضة الثانية. شيرين ثابتة، لا تهتف في رسائلها ولا تهادن، معادلة رائعة، فهي تخبرنا عبر أدائها أن الحقيقة جلية كالشمس، الظلم واضح كالدم، يحق لمن شاء أن يغضب وينفعل، لا بل أنا أمدّه بالأدلة اللازمة لصراخٍ صوته أعلى، لكن الثبات على الأرض هو لبّ القضية.
اغتيال شيرين هو فعل اعترافٍ لنا بأن خوف المحتلّ من هذا الثبات يأتي بحدّة الخوف من حملة السلاح ضده. شيرين ستروي القصة التي تؤكّد، ستطلب تصريحاً من السيدة التي يريدون محوها هي وبيتها في الشيخ جرّاح، ستخبر الجميع كيف قتل الشهيد، وستجيب بحسمٍ لا يحتمل الشك عن السؤال المقزز: هل كان الشهيد فعلاً، مثلما وصفه عدوه، يستجدي الموت؟
لم تكن صحافية المنابر والمقابلات مع قادة السياسة والسلاح، نجوم الشاشات. تحيّزها واضح في عملها، مهما تخضرمت فيه وتطوّرت وترقّت وصارت “كبيرة مراسلين”. عملها بقي في الشارع، بين الناس، وعنهم، بيننا وعنا. صارت أستاذة جامعة، ولا بد أنها تلقت كثير التكريم والمناصب والفرص، ولا بد أنها سمعت من الإطراء والإعجاب ما يُفقد الإنسان رزانته، لكن بثباتها الساحر، بقيت حيث تؤثر أكثر، أي على الأرض المحتلة، بقيت حيث موضوعها الأساسي، أي أهل الأرض المحتلة، ولم تتوقف عن مواجهة الكذب الصريح بحقيقة الأرض، بالهدوء ذاته، بالثبات ذاته. لا بل وراحت تدرّس كيفية فعل ذلك في الجامعة، تنقله لأجيال مثلما تعلّمته وبعدما تضيف إلى العلم خبرة الممارسة على الأرض.
قالت الصحافية نداء إبراهيم في مكتب “الجزيرة” في رام الله، وهي تنقل للناس حال المكتب بعد الخبر الخانق، أن كثيرات من بنات جيلها – وهي تبدو في أواخر العشرين من العمر – التحقن بكلية الصحافة في جامعة بيرزيت تأثراً بشغل شيرين أبو عاقلة وغيفارا البديري، خلال تغطيتهما الانتفاضة الثانية (2000) لقناة “الجزيرة”. قربهما من الناس ضاعف قوة الخبر وجعله أداةً للمعرفة وللتأثير معاً، وليس المعرفة فحسب. وهما فعلا الفعل ذاته لنا جميعاً، في أنحاء هذه المنطقة، لما أدمنا “الجزيرة” خلال الانتفاضة.
أنا أحببت غيفارا جداً، لكن شيرين بقيت بطلتي. غيفارا قوية ومواجهة، لكن ثبات شيرين سحرني. أطمئن لها كمديرة للخبر، أثق ثقةً مطلقة بما تقوله، وأعشق كيفية كره الاحتلال لها. لطالما ضايقوها، ولطالما احتقرت مضايقاتهم بمهنية عالية، بلا هتاف، وبكثير الثبات. هذا الثبات.. أظن أن مصدره هو ثقة شيرين بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة والبسيطة التي تفيد بأن الأرض تخضع للاحتلال والشعب يخضع للظلم.
كنت صحافية عشرينية لما تعرّفت إلى شيرين عبر الشاشة، وكنت أنظر إليها كإمرأة تجسد كمال الصحافي بالنسبة إلي. تتفوق به على رجال الصورة المعتادة، الذين احتلوا ساحات التغطية من شوارع المواجهات، حتى أتت الفلسطينيات وقلن: نحن أيضاً. وبعد “نحن أيضاً” بقليل، سقطت الـ”أيضاً” وبقيت “نحن”. لسنا ملحقات بشيء، ولسنا في نديّة مع سوانا: نراها بين المقاومين، كتف بكتف، نراها بين النساء، واحدة منا، نراها أمام العدو، جبهةٌ ترفع جباهنا كلنا.. شيرين ساهمت في إسقاط “المرأةُ أيضاً” من معادلات التغطية والمساواة الجندرية، جعلتها “المرأةً طبعاً”. بلا شك. بالدليل الدامغ والنقل المباشر.. تماماً كما تم اغتيالها، بالدليل الدامغ وأمام عدسة النقل المباشر..
المصوّر الشجاع الذي استمر بالتصوير، نقل إلينا جريمة اغتيال شيرين بوضوح الخبر الذي اعتادت شيرين على إيصاله: هذه هي الجريمة، هكذا تمت، وهذا هو القاتل. هذا هو المجرم، وهذه هي الضحية. عاشت بوضوح وثبات، وقُتلت “بدم بارد”. هكذا تكون قصص الأبطال.
أتسمّر منذ وصول الخبر أمام شاشة الجزيرة. لا أعرف أين أذهب بغضبي وحزني. إسرائيل تقتل فلسطينيين وفلسطينيات يومياً، ما يجعل الحزن والغضب مستمرين. لكن، في اللحظة التي تقتل فيها صحافيةً تكون قد قتلت الكثيرين والكثيرات: قتلت مرةً أخرى كل من نقلت شيرين لنا جرائم قتلهم، قتلت كل من نقلت لنا شيرين لحظات طردهم من بيوتهم، قتلت كل من شاهد.ة عيان نقلت عنهم شيرين حقيقة ما جرى. قتلُ صحافيةٍ نحفظ وجهها واسمها، كبرت أمامنا وكبرنا معها، وثقنا بها وعلّمتنا الثقة بصحافية، هو مصابٌ خاص منينا به كل واحد.ة منا على حدى وجميعنا سوياً. حزنٌ خاص وغضبٌ عام.
أستمر بالتسمّر أمام الشاشة، أراها الخبر العاجل لا ناقلته، أرى جسمها المتوفى مغطى بعلم فلسطين وجاكيت الصحافة، يجوب مخيم جنين بدلاً عنها، وأسمع أن جميع الشباب من مختلف الفصائل يريدون حمل النعش تباعاً، يريدون وداعها.
على مرّ حياتها الراشدة، شيرين نقلت الخبر كاملاً من موقع حدوثه على الأرض. ولما صارت هي الخبر، وصلنا أيضاً كاملاً، دقيقاً، لا لبس فيه، ومن موقع حدوثه على الأرض.
وداعاً أيتها البطلة، منك تعلّمنا، وعلى الأرض سنستمر.