في ذاكرتي، تشبه تيتا، جدّتي أمّ أمّي، الصيف؛ عزيزة النفس وقويّة وعازمة وهادئة. كان اسمها نجيبة وكان لها من اسمها نصيب، فقد كانت تجسّد فعلًا الكرم والنبل والنزاهة.
ولدت تيتا في قرية من قرى منطقة الجليل الأعلى في فلسطين، في أوائل العشرينيّات من القرن الماضي. وقتها، كان عدد سكّان فلسطين مليون نسمة تقريبًا وكان نصفهم من الفلّاحين والفلّاحات. كانت نجيبة منهم، تعيش في قرية وتزرع الأرض. تزوّجت عندما كانت في التاسعة عشرة من عمرها بعد أن تجاوزت سنّ الزواج السائد في القرى آنذاك، إذ كانت الفتيات يتزوجنّ بحلول عامهم الرابع عشر. لطالما اعتقدت أنّ هذه الفجوة الصغيرة سمحت لها بالتجذّر أكثر في هويّتها كامرأة؛ عزيزة النفس وقويّة وعازمة وهادئة.
عندما هجّر الاحتلال الفلسطينيّات والفلسطينيّين من بيوتهم في العام 1948، قامت جدّتي وأطفالها الثلاثة برحلة مدّتها ثلاثة أيّام ليلجؤوا إلى جنوب لبنان، حيث أمضوا العامين التاليين يعيشون في خيام حتّى تمّ نقلهم إلى ثكنات غورو في وادي البقاع شرقيّ لبنان. هل يا ترى كانت تيتا تعرف من هو هنري جوزيف أوجين غورو؟ ذلك الجنرال الفرنسيّ الذي سمّيت الثكنات العسكريّة باسمه والذي فرض مشروع التقسيم الفرنسيّ في بلاد الشام؟
بقيت في تلك الثكنات حتّى أوائل الستينيّات قبل أن تنتقل للعيش في غرفة صغيرة بنتها مع جدّي. كانت أوفر حظًّا من غيرها من أبناء وبنات شعبها الذين كانوا يعيشون في حظائر الثكنات، حيث لا يفصل العائلة عن الأخرى سوى بطّانيّات وشراشف معلّقة بالحيطان والأسقف. أمّي ولدت في تلك الثكنات. كانت تروي لي أنّ أسوأ ما في تلك الفترة؛ الاستيقاظ في الليل لقضاء الحاجة، إذ كانت غرفتهم تبعد عن المراحيض المشتركة كيلومترًا واحدًا، وكان عليها مشي تلك المسافة. لم يُسعد هذا المشوار جدّي وجدّتي، لذا خصّصت تيتا وعاءً للتبوّل ليلًا في الغرفة.
في أوائل الستينيّات، انتقلت العائلة إلى مخيّم الرشيديّة للاجئين واللاجئات الواقع على ساحل البحر الأبيض المتوسّط على بعد حوالي خمسة كيلومترات جنوبيّ مدينة صور. كان المخيّم مقسّمًا إلى جزئين؛ القديم والجديد. بُني القسم القديم في العام 1936 على يد الحكومة الفرنسيّة لإيواء الأرمن الذين لجؤوا إلى لبنان، أمّا القسم الجديد فتمّ بناؤه من قبل الأونروا في العام 1963 لإيواء اللاجئين واللاجئات الفلسطينيّين الجدد. حصلت تيتا على ثمانين مترًا مربّعًا في القسم الجديد، وكانت هذه المساحة بيتها حتّى آخر العمر.
أنجبت نجيبة تسعة أطفال وفقدت اثنين منهم. علي -توأم أمّي- كان أوّلهما. سألتها مرة كيف ومتى مات، قالت إنّه توفّى عندما كان في السنة الأولى من حياته بعد أن اختنق بحليبها. ركضت به وقتها إلى العيادة لكنّها كانت مدركة أنّها تحمل طفلها الميت. حدث ذلك في العام 1955. بعد عشر سنوات بالضبط، انفطر قلبها على فقدان ابنتها عناية صاحبة الخمس سنوات. كانت عناية قد وقعت في قدر كبيرة تغلي فيها المياه تحضيرًا لطقس غسل الملابس الذي كانت تيتا تهمّ بالقيام به. بقيت تيتا مع عناية في المستشفى لبضعة أيّام حتّى لفظت الصغيرة أنفاسها الأخيرة في ذات فجر عندما كان الأذان يملأ المكان. قامت تيتا بلفّ جسدها الصغير في بطّانيّة وخرجت من المستشفى مسرعة باحثة عن سيّارة أجرة، أرادت دفنها في الحديقة الصغيرة الموجودة ضمن الثمانين مترًا المخصّصة لها والتي اهتمّت بكلّ شبر فيها بنفسها. حاولت كثيرًا أن تحقّق رغبتها لكن لم يُسمح لها بذلك، وانتهى المطاف بجثمان عناية في مقبرة المخيّم.
روت لي تيتا أيضًا قصصًا عاشتها في أيّام حصار المخيّم خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة في الثمانينيّات عندما تمّ إغلاق المخيّم تمامًا ومُنع التحرّك منه وإليه لمدّة ستّة أشهر. بعد فترة قصيرة جدًّا، نفدت الإمدادات الغذائيّة وساد الجوع الشديد، فأصبح حساء الفجل طبخة أساسيّة وتحوّلت قشرة الليمون إلى وجبة. قالت لي تيتا إنّه لولا البساتين المحيطة بالمخيّم لكانوا ماتوا جوعًا، لكنّ الذهاب إليها لجلب بعض الليمون أو البرتقال كان قرارًا يمكن أن يكلّفهم حياتهم، ومات البعض فعلًا أثناء قيامهم بتلك الرحلة برصاصات القنّاصين. كان جوع الحفيدات -بنات عمّي- الأثقل على قلب تيتا، كانت تراهنّ يبكين كلّ مساء من الجوع وأمهنّ تجلس مقابل طنجرة تغلي فيها بضع أحجار وتقنعهنّ بالانتظار قليلًا حتّى تجهز «البطاطس» التي تسلقها لهنّ، حتّى يغلبهنّ النعاس وينمن جائعات.
ابن نجيبة الآخر -والذي كان يعيش في بيروت ويعمل كمسعف في سيّارة إسعاف- لم يسلم أيضًا من الحرب الأهليّة؛ القوّات السوريّة قبضت عليه ذات يوم وسجنته في سوريا. كان متزوّجًا حينها ولديه ثلاثة أطفال. بحثت عنه نجيبة على مدار خمسة أشهر، لم تكن تعرف مكان تواجده ولا إذا كان حيًّا أو ميتًا، لكنّها دقّت جميع الأبواب بحثًا عنها وكان الحظّ حليفها مرّة أخرى فعثرت عليه. كانت تتقدّم بطلب للحصول على تصريح لرؤيته كلّ شهرين وتقوم برحلة شاقّة إلى سوريا، كانت تمشي في آخرها خمسة كيلومترات لتصل إليه. كانت تحمل الطعام والملابس والصور والرسائل ليس فقط له بل لكلّ مُرتَش كان عليها أن تعطيه شيئًا لتتمكّن من رؤية ابنها. استمرّت نجيبة في رحلاتها العصيبة تلك لأربع سنوات حتّى تمّ الإفراج عنه.
مع مرور العمر أصبحت حديقة تيتا فسحة لسكّان وساكنات المخيّم، ومكانًا ترى فيه دائمًا أحدًا يحتسي فنجان قهوة. كان يُقال إنّه «إيدها خضرا» لأنّ نباتاتها كانت دائمة الخضرة والصحّة. كانت قادرة على زراعة جميع الأصناف والأنواع، والأشجار لم تكن اسثناءً؛ كانت تزرع أشجار القشطة والتين والصنوبر. ألوان القطيفة كانت تملأ حديقتها وحوّلتها بأزهارها التي تشبه الجواهر إلى جنّة صغيرة في الأمتار المربّعة الثمانين المخصّصة لها. رحلت نجيبة عن هذا العالم في يناير / كانون الثاني 2012.
هذه هي جدّتي، هذه هي تيتا. أشعر بها تنساب من خلال ذاكرتي وتعيش في خلاياي. والآن، وبينما أحكي قصّتها بصوتي، أفكّر بما كانت ستقوله. أعتقد أنّها كانت ستقول لي: إنّ المآسي لا تزور إلّا القلب الكبير وهو وحده القادر على تخطّيها، لذا أحِبّي من كلّ قلبك ودعي ذلك الحبّ يتجلّى في أصغر التفاصيل وأكبرها. وهذا القلب الكبير يحتاج إلى ذراعين وقدمين تستطيع أن تحمله بقوّتها وتمضي به قدمًا، لذا ثبّتي خطاك بالنيّة والعزم. الحياة ستختبرك كثيرًا، فعلّمي قلبك الكبير وذراعيك وقدميك القويّة الاستسلام أحيانًا والسماح لإيقاع الحياة الانسيابيّ القيام بدور القيادة. إذا أضعتِ البوصلة، اجعلي الأرض والأشجار موطنك، ولا تنسي أنّ كلّ جنّة تخلقينها بحبّ وتفانٍ تصبح فسحة للآخرين أيضًا، لكنّ لا بدّ أن تبدأي بها بنفسك أوّلًا. كانت ستقول أيضًا: لا نأخذ معنا من هذه الدنيا سوى ما في قلوبنا الكبيرة، لذا تأكّدي ألّا تحملي فيه سوى الثمين واجعلي حملك خفيفًا.
نجيبة تشبه الصيف؛ نسمتي الخفيفة التي تتجوّل تحت بشرتي السمراء والشمس الرائعة التي تملأ وسع قلبي. لروحك السلام يا تيتا.