“فكّري بشكل جاد، وأنا ممكن أقدملك إغراءات جيدة”. جملة قصيرة تبعها وجهٌ مبتسم.
كان هذا جواب الصحافي المصري هشام علّام العام الماضي حين قلتُ له إنني لن أكون في بيروت خلال زيارته لها وإنني مسافرة. قد لا يحمل ردّه أي معنى أو إثبات على أي شيء. قد لا تكون الـ”كيفك يا نسويّة؟” التي أرسلها إليّ أبعد من كونها جملة تافهة، كذلك الأمر بالنسبة إلى سؤاله عن “إيه آخر شي مجنون عملتيه؟” الذي وجّهه إلى امرأة لم يرَها في حياته.
الأسئلة التي سلسلها هشام لم تشكّل بالنسبة إلي دليلاً على شيء. كنتُ منذ زمنٍ ليس ببعيد أنتمي إلى فئة النساء المُتمسّكات برغبةٍ صبورة في افتراض النيّة الحسنة وإيمانٍ راسخ بحق الأشخاص في التعبير عن أنفسهم واختيار أساليب التقرّب التي تريح طباعَهم، طالما أنها تعرف كيف ومتى تتوقف.
لكن شيئاً ما أزعجني. لم أفهم ماذا قصد هشام بـ”الإغراءات”، ولا “الشيء المجنون الأخير” الذي فعلتُه. أي ردّ كان يتوقّع؟ مبدئياً، أقوم كل يوم بفعلٍ مجنون من طراز الأفعال الممنوعة على النساء، كعدم الابتسام أو الرد دوماً، أو حماية خصوصيتي أمام المتطفّلين، أو محاولة إنقاذ قططٍ صغيرة.
ثم أتى الحدث الذي بدّد ضبابيةً كانت قد صارت ورائي مذ اتّخذتُ قراري بعدم الرد. كنتُ وما زلتُ لا أمتلك طاقة الملاحقة أو الاستفسار أو الفضح. أعطي عدداً لا بأس به من الفرص، وغالباً ما أختار القنوات الخاصة والمباشرة للبتّ في ما هو عالق وأمشي. أو ببساطة، أتجاهل الموضوع برمّته. غير أنّني لم أُغتصَب، ولم أُثبّت أرضاً تحت كنبة، ولم يُلتقط مهبلي، ولم أُهدّد، ولم أُستدرج إلى مشوار في السيّارة بداعي تقديم خدمة مِهنية أو استشارة نفسية.
في أحسن الأحوال، طويتُ العقد الماضي من حياتي من دون تكبّد هذا الصنف من الانتهاكات التي أعتقد أنها غالباً ما يشتدّ حضورها خلال بدايات مسيرات صقل الذات مهنياً وعاطفياً. في العقد الماضي من عمري، اكتفى الرجال، مشكورين، بالتحرّش بي “على الخفيف” جسدياً ولفظياً في الشارع، أو تعقّبي، أو تهديدي إلكترونياً، أو الصراخ في وجهي، ربما لأن أنيابي برزت. تذكّروا سؤال هشام: “كيفك يا نسويّة؟“.
بعدما قرأتُ شهادات النساء على موقع “المدوّنة”، فهمت. فهمت أن هشام في الواقع تأخّر بمحادثتي. فهمتُ أنني في لحظة حلوله في علبة الرسائل الخاصة، كنتُ قد اجتزتُ مرحلة التعلّم والتدريب والافتتاحيات، وعلّقت تحالفي مع اللطف المفرط، وودّعتُ محاولات إثبات نفسي أمام مَن كنتُ أعتقد أنهم سيظلون إلى الأزل أقوى وأفضل وأكثر خبرة مني. كنتُ قد تسلّحتُ بغريزة قادرة إلى حد ما على التمييز بين مَن لا يأبه بي ومَن يريد الخير لي. كنتُ قد تسلّحتُ، والفضل لصديقاتي وأحلامي الكثيفة، بحدسٍ حليف تعلّمتُ أن أصدّقه كل يوم أكثر. قرأتُ شهادات النساء الناجيات من ألاعيب هشام وأفعاله وصدّقتهن فوراً، انطلاقاً من التزامي بتصديقهن أولاً، ومن تجربتي العرضيّة الإنستاغرامية ثانياً. لكن دعكم من أسبابي، وفكّروا قليلاً معي:
في أي فعل بوح ومواجهة، الضحايا هنّ أوّل الخاسرات. فهنّ اللواتي يُطلب منهن تكبّد عناء إثبات الضرر، وتبرير تأجيل الإفصاح عمّا حصل، والاعتذار عن ركوب سيارة، وتقديم صكوك العفّة كشرطٍ مسبق للحصول على أي شكل من أشكال التصديق والتضامن. هنّ اللواتي أثبتَ مَن اشتكين منه شرعيّةَ مخاوفهن. هنّ اللواتي لامهن مَن ادّعى لسنوات فهمَ إشكاليّة العنف الجنسي وتشنّجاتها على عدم تقدمهنّ بشكوى ضدّه في بلادٍ بالكاد مرّت أشهر قليلة على توقيفها راقصات و”فتيات تيك توك” وأسابيع معدودة على إصدارها حكماً جائراً بسجنهنّ، بلاد دعمتْ حفنةٌ من إعلاميّيها ووجهائها المشكو منه الذي يجول على الصحافيات طالباً دعمهن، حالما نشر توضيحاً هو أشبه بـ”تمبلايت” يستعين به المتَّهمون بجرائم الإساءة الجنسية والمعنوية ضد النساء.
طيلة التاريخ، كانت النساء كاتبات مجهولات. نشرن بأسماءٍ مجهولة، أو مستعارة، أو ذَكَريّة منسوبة إلى زوج أو أخ أو رجل غريب. فلِمَ تُفاجئنا المجهوليّة الآن في قضيّة هي بهذا القدر من الحساسية؟
قرأتُ توضيح هشام، ورحت أبحث بين سطوره، علّني أجد ولو صيغة من صيغ الاعتذار عمّا يمكن أن يكون قد اقترفه أو قاله مثلاً، أو بصيص إعلان عن نيّته الإصغاء والتصحيح، أو حتى انكار مباشر وصريح لما جرى، على رغم وجود الكثير من المحادثات الموثّقة التي تدعم فرضيّة أن يكون هذا الشخص بالحد الأدنى متحرّشاً بالمتدربات والصحافيات، لا سيما الشابات من بينهن، وتطرح علامات استفهام كثيرة حول مقاربته للعمل المهني مع زميلاته الإناث اللواتي يدّعي نصرة حقوقهن وتفهم تعقيدات حيواتهنّ.
قرأت توضيح هشام، غير أنّني لم أجد فيه سوى تذكير وجّهه إلى شاكيةٍ لا يصدّقها – وهي حتى غير موجودة في نظره – بوجوب الإبلاغ، وافتراض وجود حملة ممنهجة ضدّه، وهيمنة صارخة لضمير الـ”أنا”، وتهديد مباشر للقيّمين على الموقع الناشر للشهادات وكل مَن شارك ضدّه بالنشر أو إعادة النشر، “صراحةً أو إيماءً”، والكثير الكثير من الامتلاء الذاتي الذي أحالني إلى كل المؤشّرات الدالة إلى عوارض نرجسية موصوفة، مع أنني، بخلاف هشام، لم أتخصّص بعلم النفس!
ثمّ شاهدتُ ما هو أسوأ من ردّه المكتوب. فيديو نشره على صفحته يسرد فيه، بصوت امرأة طبعاً، وجهة نظره من التهم الموجّهة إليه ويستخف طوال عشر دقائق بعقول مشاهدين ومشاهدات شعروا للوهلة الأولى أنهم أمام فيديو لوكالة أنباء تابعة لحكومة عسكريّة وظيفتها كشف الأخبار الملفّقة ضدّها والمؤامرات التي تُحاك ضد النظام الحاكم. والأخطر من هذا، أن هشام لم يجد مانعاً في فبركة شهادات بهدف إثبات سهولة صنعها أمام متابعيه “الجهلة” الذين لولاه ما كانوا ليعلموا أن استنساخ خلفية تطبيق واتس آب ممكن. وهو بذلك لم يثبت سوى استخفافه بجديّة الشهادات الأولى وعزمه على قطع الطريق على الشهادات الأخرى التي يتوقّع خروجها من العتمة.
باختصار، وجدتُ في كلا الرد المكتوب والفيديو صورة مصغّرة عن أنظمتنا التي تكذّبنا بأي ثمن، والنموذج المعتاد للمتّهم الذي يقرّر أن يغدو هو الضحيّة ويُحيل تهمة الإساءة إلى مجرّد “واقعة مزعومة”.
واقعة. صدمة. شك في النفس. إحساس بالذنب. علاج. نهوض. سقوط. شهور. تعافي. سنوات. نكسة. أسابيع. راحة. قرار. بوح… فتهمة تشهير. هذا هو شكل قصصنا. هذا هو شكل أوجاع النساء.
دعاوى النساء لا تجهز أبداً، أما دعاوى التشهير فدائمة الجهوزيّة. يكفي أن نتأمّل ولو لبرهة في هذه المعادلة لنفهم أسباب عدم إقدام الكثير من النساء في عالمنا العربي على كشف هوياتهنّ والتزاحم أمام قصور العدل.
علينا اتّخاذ القرار الصعب بتصديق الشهادات الصعبة حتّى إثبات عكسها، لا تكذيب الشهادات حتّى إثبات صدقها
يكفي أن نقتنع أن معايشتنا لهذا الزمن المحكوم بمنظومة أبوية متجذّرة في مجتمعاتنا لم تبرح تُصعّب على النساء إمكانيات التبليغ الآمن والحماية من الانتقام والعقاب وتُسهّل في المقابل على الرجال الادّعاء عليهن في اليوم التالي، تقتضي منّا اتّخاذ تدابير واضحة، وسريعة، وربّما “خطيرة” أيضاً. وقوام هذه التدابير تكون في تحرّكنا الذهني والعاطفي باتّجاه تصديق ناجيتَين وثلاثة وعشرة ودعمهنّ في طريقهنّ إلى العدالة، حتّى ولو من خارج فانتازيا المحاكم، ما دمنا ندرك خير إدراك كيف لا تزال قاعاتها ونصوصها حتّى يومنا هذا تُوظَّف ضدّهنّ، وطالما أنّها ببساطة، لم تكن خيارَهنّ لألف سببٍ وسبب.
أترون كيف ينكب معظمنا على دعم امرأة تعرّضت للإساءة والعنف على يد رجلٍ لا نعرفه؟ كيف ننقل شهادتها ونحتمي – وهذا حقّنا – بنسب روايتها إليها؟ على هذا النحو، علينا التصرّف مع شخصٍ نعرفه – أو حتّى نصادقه – يصلنا خبر سجلِّه الحافل ليس بقصّة واحدة وحسب، بل بعددٍ من ممارسات التحرّش، وشكاوى اعتداءاتٍ فصّلتها لنا كاتباتها المعروفات والمجهولات.
طيلة التاريخ، كانت النساء كاتبات مجهولات. نشرن بأسماءٍ مجهولة، أو مستعارة، أو ذَكَريّة منسوبة إلى زوج أو أخ أو رجل غريب. فلِمَ تُفاجئنا المجهوليّة الآن في قضيّة هي بهذا القدر من الحساسية؟ ألأنّ هشام صديقنا؟ أم لأنّه صحافي وأستاذ جامعي محترم لا يُعقل أن يكون قد اقترف ما اقترف؟
ليس الهدف إعدام المتّهم ولا اغتيال شخصيّته ولا قطع فرصه، التي يبقى أنّه جناها على حساب سلامة نساء أخريات وليس بمجهوده الشخصي فقط. المطلوب، ببساطة، أن نكون منسجمات ومنسجمين مع أنفسنا، قدر المستطاع. وأنا لست أدعو إلى تصديق ساذج لكل “آخ” نسمعها، بل إلى اتّخاذ القرار الصعب بتصديق الشهادات الصعبة حتّى إثبات عكسها، لا إلى تكذيب الشهادات حتّى إثبات صدقها.
وإلى الناجيات أقول، أصدّقكنّ.