كتابة نانسي فاروق
أقفاص فارغة هي رواية سيرة ذاتية متقطعة للكاتبة فاطمة قنديل التي نشأت في أسرة مصرية متوسطة، تسرد لنا فيها مقتطفات من حياتها تركت آثارًا لجروح لا يعالجها الزمن وإنما يصقلها.
تتحرر فاطمة في روايتها من أعباء ما يصح وما لا يصح أن يقال في عمل إبداعي لسيدة عربية من أسرة متوسطة، وتفتح الأبواب التي عادة ما تظل مغلقة على النساء ليحملن وحدهن ثقل ما يحدث وراءها. فتتحدث بعبارات عارية تمامًا عما حدث لها كطفلة وكشابة وكسيدة، وكيف امتدّت الأيادي لجسدها الصغير وكيف خذلت صلة الدم روحها وكيف تعاملت هي مع كل ذلك.
قفص الطفولة
تخرج فاطمة من قفص طفولتها بالحديث عنه وعن قفص الطبقة الوسطى الذي لا ينفك سكانه من محاولات التملص منه والارتقاء درجة أو اثنين أو ربما ثلاث عبر الهجرة من البلاد. أما عائلتها، رغم انتمائها إلى نفس الطبقة، تستمر في الرقص على السلم لسنوات معدودة فقط لتلقى نفسها في انحدار عنيف يقود بها إلى مواجهة شراسة المرض بجيوب خالية من النقود.
تشهر فاطمة السكين الذي خدش طفولتها في وجه المجتمع، وتفتح النار على النظام الأبوي بعبارات هادئة عبر فضح الأيادي التي امتدّت إلى جسدها وانتهكتها جنسيًا، من سعد الفراش مرّة ومن جارتهم مرّة أخرى وعن ردة فعل والدتها عندما أبلغتها بما حدث بعد عدة سنوات، وكيف شحب وجهها وتحوّل قلبها إلى قالب من الثلج. كانت ليلة فادحة على أمها بسبب اعترافات طفلة خاضت طريقها لاكتشاف حرمة جسدها وحيدة، بعد فوات الأوان لحمايتها.
لا تتعمق فاطمة في وصف تلك الانتهاكات ولا تحكيها بصفتها الضحية وإنما تمر عليها مرور أبطال الرواية. لا تطلب حقها ولا تطلب الإنقاذ وإنما تكتفي بامتلاك قصتها وانتزاع حرية سردها من الرقابة المجتمعية بعبارات عارية تمامًا لا تحمل ما يسترها من المجاز.
قفص العائلة
تسرد “أقفاص فارغة” كيف تصبح العائلة قفصًا مزدحمًا بالأذى والخيبات من بعد سقوط الوعود بالرعاية والاحتضان، وكيف تفشل الأسرة في قيامها بدورها الأساسي فتُفرِغ نفسها من كل ما قد يحتاجه الفرد من الجماعة، ومن الرباط العاطفي الذي يتحول لعبء وقيد أبدي وسلسلة من الخذلان تتنوع فصولها باختلاف كل فرد منها، كالأب المكسور والأخوين الذين يتخليان عن دورهما ووعودهما وينبذان صلتهما بالأسرة.
تقول فاطمة «كان أبي يحمل حلمه كجثة في أعماقه بينما حمله راجي -الأخ- برعونة من يتناول طفلًا حديث الولادة من يد أمه ويؤرجحه بعنف أمام عيني أبي المكلوم».
تحكي فاطمة كذلك عن كل البيوت التي انتقلت إليها وكيف لفظتها الجدران تارة وكيف قامت هي بدور الجدران تارة أخرى. وتحكي عن حال النساء في البيوت العربية، كيف تتحمل القوارير كل هذا الطرق وتستمر في أداء مهامها حتى بعد أن تنكسر فتقول: «كأنني أنا نفسي كنت معلقة بخيوط غير مرئية، بذلك البيت القديم، لأربعين عامًا بكاملها، وكأنهم لا يستطيعون رؤية سوى ذلك الكائن، المعلق في جدرانه، وكأنني كنت عنكبوته المقيم، عنكبوته الخارج، أخيرًا، عاريًا، وفي فمه كل ذباب العالم، يجري بها لاهثًا، ومذعورًا».
قفص الحب
وفيما يتعلق بالحب والزواج تسرد فاطمة قصة زواجها غير المعلن في سن صغيرة وعن اختيارها الذي لم ينصفها عندما خذلها الزوج الأول بكسره وعوده الواهية بإعلان الزواج وهروبه، ثم الزواج الثاني الذي جاء يؤدي دوره في سلسلة الخذلان بالمزيد من العنف الجسدي والنفسي، فتُخرجهما من حياتها واحدًا تلو الآخر بقلب ثقيل، لتجد نفسها مرة أخرى في حضن والدتها، ولكن هذه المرة وهي شابة ثلاثينية تحاول أن تستعيد والدتها المرهَقة من فم السرطان اللعين. «أدركت أنني أريد أن أستعيدها، لم تكن تلك السيدة النائمة طوال الوقت تشبه أمي، حتى حين كنت أضع رأسي على صدرها لألعب دور طفلتها».
تستقر فاطمة مع رفيقة دربها الحقيقية وهي تحمل شروخًا ناتجة عن عنف ثلاثة أجيال من الرجال في حياتها. لم تُهزم تمامًا رغم تمسك ذاكرتها بجميع الخيبات الماضية التي أرغمتها على تحمل المسؤولية واتخاذ أدوار الرجال في حياتها وحياة أمها: «ماما، أنا وأنت زوجين سعيدين، بس يسيبونا فحالنا».
قفص الفراق
وأخيرًا تتحدث فاطمة عن فراق والدتها التي كانت رفيقة دربها الحقيقية، بعد رحلة شرسة مع المرض بتفاصيل مؤلمة تحكيها بصدر رحب يسع الكثير من الحب والكثير من الخذلان، وعن محاولاتها في الغفران وعن تفضيلها الصمت عندما يفقد الكلام رجائه. تفرغ لنا كل أقفاص آلامها وأسرارها وتفضح الأقفاص التي وعدتها بالأمان، والأقفاص التي اختارت أن تُسجن بداخلها بإرادتها.
تحكي الراوية عن أقفاص داخل صدور النساء مليئة بالخذلان والوعود المؤجلة والصمت المفروض. وعن أقفاص أخرى فرغت بعد أن تركتها النساء مجبرة لتبحث عن فرديتها بعد أن تخلّت عنها العائلة.
على الرغم من كونها شاعرة، تتخلى الراوية في أسلوب كتابتها عن المجاز وتختار حسب قولها «لغة عارية تمامًا، لا ترتدي ما يستر عورتها من المجازات»، إذ لا شيء ينفّرها أكثر من أن تصبح صنمًا أدبيًا أو مزارًا للباحثين عن الحكمة المقطّرة في جملة مفيدة واحدة، أن تمسي حياتها «قولًا مأثورًا» وأن «تصير درسًا، أو عبرة». لذلك، تحاول فقط أن تمتلك قصتها وتمنحها ما يعبر عنها بعبارات واضحة وسرد سهل لحياة امرأة عادية، تعيش تفاصيل عادية ولكن لم يعتاد المجتمع مواجهتها والاعتراف بها.
وأخيرًا تبعث فاطمة في نفوسنا الراحة بعد أن تطمئننا بأنها وجدت طريقها خارج كل هذه الأقفاص
كما كانت تتحرر طوال حياتها بطريقة أو بأخرى، وأن هذه الرواية هي واحدة من حيّلها للخلاص من قفص ذكرياتها المؤلمة. «كل ما كتبته على هذه الأوراق كان مؤلمًا، لكنني كنت أتعافى منه في اليوم التالي، أشعر أنني تحررت من ذكرى وأحاول أن أتذكرها مرة أخرى فتتلاشى كأنها تبخرت فور أن كتبتها».