يُسمَّين عادةً “أمهات عازبات”. هنّ إما غير متزوجات أو منفصلات عن أزواجهن ويوفّرن العناية لأطفالهن، طوعاً أو قسراً. يتحملن وحدهنّ مشقة تدبير لقمة عيش طفل أو أكثر وتأمين لائحة لا تنتهي من الاحتياجات.
هؤلاء السيدات هنّ من أبرز ضحايا اختلال البنى الاقتصادية وأنظمة حكم كاملة بسبب انتشار فايروس كورونا، ولكن غالباً ما يُهمَّش الحديث عنهنّ وعن مشاكلهنّ.
القانون يريد “تربية” الأمهات العازبات
عندما وطأت قدما سارة الأراضي اللبنانية، عام 2011، لم تكن تعلم أنها ستصير أماً إثيوبية لابن لبناني ستسميه “بول” Paul. أنجبت سارة، 26 عاماً، ابنها خارج إطار الزواج، بعد علاقة جمعتها بمعلّم الرقص الذي كانت ترتاد صفه.
بعد ولادة “بول”، تفاقمت الخلافات بينها وبين شريكها، ما أدى إلى انفصالها عنه عام 2018، وانطلاق رحلتها كأم عزباء – بالمعنيين القانوني والاجتماعي – من دون أن يؤثر الأمر على تشبثها بالحياة وعزيمتها على المحاربة من أجل عيش كريم تؤمن بأنها تستحقه هي وسواها من مثيلاتها غير المتزوجات.
“وصلتُ إلى لبنان عام 2011 لزيارة شقيقتي، ثم أصبحت عاملةً منزلية”، تقول سارة لـ”خطيرة”، وتضيف: “تعرّفت على أب ابني حين كان يعلمني الرقص. حملت في أواخر عام 2015 وأنجبت ‘بول’ عام 2016”.
“بعد خلافات أدت إلى إنهاء العلاقة، صرت أربّيه وحدي”، تتابع تفاصيل قصتها، “أما الآن، فأنتظر أن يوقّع أبوه على بعض الأوراق ليندرج اسمه رسمياً في سجلات نفوس الأب الذي يبدو أنه لا يزال يخاف من أن يُعَدّ ابنه ‘ابن حرام’، والأرجح أنه يستخدم هذه الحجة ليبرر مماطلته في إجراءات تسجيله التي تأخرت أكثر بسبب الظروف الراهنة”، في إشارة إلى تعليق أعمال المحاكم اللبنانية في ظل انتشار فايروس كورونا.
المقصود في حديثها هو قلق الأب من التبعات الاجتماعية للاعتراف بابنه المولود خارج إطار الزوجية، ذلك أن لا وجود لكلمة “ابن حرام” على المستندات الرسمية.
وبشكل أدق، كان يرد مصطلح “لقيط” سابقاً، ولكن ذلك توقّف بعد صدور قرار من وزير الداخلية قضى بإلغاء استخدام هذه الكلمة عام 2008 واستبدالها بـ”مولود حديث الولادة”، عملاً بأحكام المادة 16 من قانون قيد وثائق الأحوال الشخصية.
ليست الأمومة العزباء أمراً مستحيلاً في لبنان، ولا تسجيل الأطفال على اسم الأم (اللبنانية) ضرباً من الخيال، وإنْ لم يزل مساره عسيراً بسبب ارتباطه بوجوب إثبات مجهولية الأب. بمعنى آخر، لا اعتراف بالأم وكيانها المستقل إلا حين تُفقَد هوية الأب وكنيته بالمطلق، فلا يسجَّل الطفل في خانة عائلة الأم إلا في حال تعذّر تطبيق قاعدة تسلسل النسب الأبوي الكلاسيكية.
تظهر الأم إذاً حين يغيب الأب، وإلا، يظل ظهورها في الكواليس، في الخلفية، ويبقى مرتبطاً بالحيّز الرمزي والمعنوي، ومغيَّباً عن الأوراق الرسمية، تحديداً في مجالي إعطاء اسم عائلة الأم وجنسيتها اللبنانية لأطفال أنجبتهم هي.
في حالة سارة، فإن تسجيل الطفل منوط بهمة الأب، أولاً لأنه ليس مجهولاً، وثانياً لأن سارة ليست لبنانية.
يظهر الأب واسمه، فتبدأ رحلة تسجيل الطفل في قيده وتغدو النتيجة رهينة إرادته ومزاجيته فور انكشاف هويته أمام السلطات، ليُضاف التحدي القانوني إلى الهموم اليومية التي تتكبدها الأمهات العازبات من أجل تأمين معيشة أطفالهن وحاجاتهم النفسية والاجتماعية على امتداد الـ7/24. ثم تأتي الانهيارات المالية والصحية لتنهال على ما تبقى من كواهلهن.
في أواخر عام 2019، خسرت سارة عملها وأصبحت مهددة بفقدان سكنها، ما اضطرها إلى الاعتماد على مساعدات من نساء أخريات لفترة وجيزة، لتتمكن من تسديد تكلفة الإيجار.
صحياً، أصيبت بكورونا ثم شفيت. في أوقات كثيرة، تعسّر دخولها إلى مستشفيات لبنان لمتابعة أي طارئ صحي أو مراقبة حالة فقر الدم التي تعاني منها، خاصة عندما لم تكن أوراقها القانونية مجدَّدة، بحكم فترات البطالة التي مرّت بها.
بعد أشهر، وجدَت سارة وظيفة جديدة أحبتها كثيراً، لكن الأمر لم يخلّصها من القلق مما يضمره المستقبل لها من مسؤوليات جديدة، أبرزها تعليم ابنها.
“سجّلت ابني في المدرسة لكن لا أعرف من أين أبدأ. هذا عامه الأول في المدرسة، وهذا همّي الأكبر الآن”.
نادية: بعد 15 عاماً استطعت أخيراً أن أصبغ شعري
لـ”نادية” (اسم مستعار)، 52 عاماً، همّ اقتصادي أعظم. خسرَت وظيفتها في إحدى شركات التغليف والتوضيب حيث عملت لعشرين عاماً، بعد اضطرار الشركة إلى إقفال أبوابها العام الماضي وسفر صاحبها إلى الخارج، بسبب يأسه من الأوضاع الاقتصادية السيئة في لبنان.
حتى الآن، لم تجد نادية أيّة فرصة عمل جديدة. تتفهم قرار صاحب الشركة وتُوجّه غضبها نحو كل مَن هم في السلطة. وما فاقم غضبها كان بطء سير المحاكم الذي تزايد في ظل الجائحة، فتأخر بسببه الإفراج عن ابنها المسجون في سجن رومية.
“أنا أم عزباء منذ أكثر من عشرين عاماً. هجرني زوجي ولم أتطلق رسمياً، لأن ثمن توكيل محامٍ باهظ جداً بالنسبة إلي. اعتنيت بثلاثة أبناء لوحدي، وبعد زواج اثنين منهما، سكنت مع ابني الذي يقبع الآن في زنزانة يملؤها فايروس كورونا. عملتُ طويلاً مع الشركة وتعبت كثيراً، لكنني كنت سعيدة بعملي لأنه كان يوفر لي الحد الأدنى من احتياجاتي. أما اليوم، فأنا أنظّف البيوت وأغسل الملابس وأطبخ الوجبات لربّات المنازل المقتدرات والجيران، غب الطلب، لأتمكن من تأمين تكلفة إيجار لا تتعدى الـ500 ألف ليرة لبنانية. لكن الطلب يتدنى بحكم كورونا والأزمة المالية”.
“تعرفين كم عاماً مرّ على المرة الأخيرة التي زرت فيها صالون تصفيف شعر؟ 15 عاماً. 15 عاماً لم أدخل خلالها إلى أي صالون”
وعن كيفية تدبير أمورها اليوم تقول نادية لـ”خطيرة”: “أحيا على الصُدَف، وعلى أمل أن أتلقى رسالة قبولي في إحدى الوظائف في المطاعم والأفران والمحلات التجارية التي أطرق أبوابها”.
تنتظر السيدة اللبنانية الإفراج عن ابنها بعد أن تلقت مساعدة مادية تأمل أن تمكّنها من دفع مبلغ كبير يتضمن الغرامات المتوجبة عليه والتعويض الذي يطالب به صاحب الحق.
دُعيَت نادية منذ مدة إلى حفل زفاف، فقرّرَت أنها لن تذهب إليه بشعرها الغارق بألف لون. “وحياة الرب، برحمة بيي، نزلت دمعتي أنا وعم بعمل شعري”. وتعقّب: “تعرفين كم عاماً مرّ على المرة الأخيرة التي زرت فيها صالون تصفيف شعر؟ 15 عاماً. 15 عاماً لم أدخل خلالها إلى أي صالون”.
نادية وسارة وغيرهنّ يخضنَ اليوم الحياة من باب الأمومة العازبة، أو بالأحرى الأمومة الوحيدة، في وجه عام 2020، مع كل ما حمله للبشرية من اضطرابات لم ينجُ منها أحد، أضيفت إلى معارك ومفاوضات قانونية شاقة تُرمى النساء في مغبها بسبب قوانين الأحوال الشخصية الدينية التي ترعى معظم الشؤون الأسرية في لبنان.
غرايس المحاربة: أريد أن تستلهم ابنتي القوة منّي
لغرايس، 28 عاماً، معركة قانونية واجتماعية من نوع آخر. يصح القول إنها كانت أماً عزباء حتى وهي متزوجة، أي قبل انفصالها عن زوجها. لطالما كانت تعتني لوحدها بابنتها، فيما زوجها غير آبه بمصلحة بيته ولا مسؤولياته كأب لطفلة صغيرة تحتاج إلى رعايته، لا بل كان يمعن في تعذيب الأم نفسياً وأقدَم مراراً على الاعتداء عليها.
ظلت غرايس تضع مصلحة طفلتها نصب عينيها في منزل قاتم وبارد سكنت فيه لسنوات طويلة مع زوج عديم المسؤولية وأمه التي لم تساندها البتة، بحسب ما تروي لـ”خطيرة”، ولا حتى حين حملت وكانت لا تزال على مقاعد الدراسة، أو حين ولدت طفلتها فاضطرت إثر ذلك إلى ترك المدرسة.
دأبت غرايس على التخطيط والتفكير ملياً بكيفية تأمين حاجات ابنتها التي أغفلها شريكها السابق، من غذاء وتعليم ونمو سليم، وانشغلت بإيجاد سبل توفيرها بشكل يومي.
واظبت على ارتياد منزل الزوج حتى بعد انفصالها غير الرسمي عنه لتتمكن من متابعة شؤون ابنتها المدرسية، بعد أن فصلها الزوج عن ابنتها عنوةً، والأهم، لطمأنتها بأن أمها لن تتركها وتعمل من أجل تجاوز كل العقبات لتستعيد صغيرتها البالغة اليوم ثماني سنوات من العمر، وتقدّم لها مثالاً إيجابياً تقتدي به وتستلهم القوة منه.
اليوم، استطاعت غرايس بعد أن باشرت بإجراءات الطلاق وأصبحت باحثة ميدانية في منظمة غير حكومية، أن تؤمّن مسكناً لائقاً، واستعادت ابنتها من زوجها السابق وأعادتها إلى حضنها.
“حين أتمّت ابنتي عامها الأول، ازدادت المشاكل بيني وبين زوجي. إدمان وأنانية وحرمان وعنف واجهتها لوحدي مع ابنة عرفتُ أنّ عليّ التفكير ملياً وبهدوء من أجل توفير حمايتها وحماية نفسي. كل سنة كانت تمر كنت أنتظر فيها اللحظة المناسبة لتنفيذ قرار إنقاذ نفسي وابنتي. أهلي لم يكونوا في أيّة لحظة من حياتي إلى جانبي، حتى عندما كنت لم أزل صغيرة. لذا، كانت في البداية فكرة الطلاق مستبعدة وصعبة جداً، وكنت أصلاً ممنوعة من العمل”، تروي غرايس.
وتضيف: “أنا أصلاً لم أتزوج في سن الـ17 لشدة الغرام، بل هرباً منهم، من أهلي. وبسبب زواجي وحملي، لم أستطع إكمال تعليمي، لكنّي تمسكت بتعليم طفلتي وقبلتُ بأن تعيش مع أبيها لفترة، بعد أن انتزعها منّي على غفلة في المرة الأولى التي هجرته فيها، شرط أن يسجلها في المدرسة”.
قبل الانفصال، أقنعَت غرايس زوجها بضرورة أن تجد عملاً لتتمكن من تأمين حاجيات ابنتهما، فاستطاعت تجميع القليل وتنفست الصعداء لهنيهة، لكن كانت النتيجة أن الزوج صار يستولي على رواتبها ليضمن ديمومة ملذاته الخاصة. حينها، اقتنعت بوجوب الانفصال عنه من دون عودة.
“بدأتُ حرفياً من الصفر”، تقول غرايس، وتتابع: “توظفت في أكثر من مكان، وكان العمل مدخلي إلى الحياة الاجتماعية التي كنت قد حُرمت منها ونسيت معناها”.
شروط الزوج دائماً حاضرة في المحكمة… حتى لو كان ظالماً
ظل زوج غرايس قادراً على فرض شروطه حتى خلال إجراءات الطلاق، برغم كل ما يثبت أنه أساء معاملة أفراد أسرته. وهذا ليس بالأمر الدخيل على قاعات المحاكم الدينية التي تنظر في هذا النوع من الدعاوى، لا بل غالباً ما تضطر النساء إلى الرضوخ والتنازل عن حقوقهنّ للحصول على مكسب أو الإسراع في إنهاء معاملة.
تنازلَت غرايس عن كل شيء تقريباً، كالنفقة الشهرية، وتشارُك المسؤوليات الكبرى من تأمين مسكن وتعليم للطفلة، وذلك من أجل الاحتفاظ بحضانتها وتعجيل إتمام الاتفاقية التي من شأنها أن تسرّع عملية منحها الطلاق بشكل رسمي ونهائي.
الآن، تعيش غرايس حرةً كما رغبت دوماً أن تعيش، وتمضي وقتها في العمل والمثابرة من أجل تعزيز مهاراتها، وتنتظر، في زحمة انهماكها بمشاغلها اليومية، أن تعاود المحاكم جلساتها بشكل طبيعي بعد أن علّقتها إجراءات كورونا، لتعقد الجلسات الأخيرة التي بموجبها ستنال حريتها رسمياً وتفك ارتباط اسمها باسم زوجها.
“لولا تكاليف المحامين/ات ولولا أن المحكمة لا تطلب منا مبلغاً كبيراً لفتح الدعوى، لكانت المسألة لِتكون أسهل بالطبع، وكنت ربما غادرت أبكر!”
حتى الآن، لم تعتمد المحاكم اللبنانية وسائل الاتصال الإلكترونية للبت في ما لا تُطلق عليه صفة العجلة أو الضرورة، كالجلسات المخصصة لإصدار أوامر الحماية والاستماع إلى النساء ضحايا العنف الأسري مثلاً، واللواتي ارتفع عدد المتصلات بينهن على الخط المخصص لشكاوى العنف الأسري بنسبة 51% بين فبراير وأكتوبر 2020، بحسب التقارير الصادرة عن قوى الأمن الداخلي.
ومع تعليق عمل المحاكم البطيء أصلاً خلال فترات الحجر المنزلي وتشديد الإجراءات الصحية، علقت مصائر مئات النساء المنتظرات أن يبتّ قاضٍ ما بملفاتهن فينلْن خلاصهن المنشود، أو قراراً يقضي بحضانتهن لأطفالهن، أو أمراً يُلزم الزوج بمسؤولياته تجاههنّ.
وكأنّ قوانين الأحوال الشخصية التمييزية ضد النساء وتكاليف تقديم الدعاوى ومتابعتها لأشهر وأعوام لم تكن كافية، فجاءت إجراءات كورونا لتوصد حتى باب المحكمة التي قلّما أنصفتهن في وجوههن، ومعها وقبلها الأزمات السياسية والاقتصادية التي ردعت الكثيرات عن التقدم بدعاوى لاسترجاع ولو شيء من حقوقهن المسلوبة، هنّ اللواتي خسرنَ مع تلك الأزمات الكثير من الفرص التي كانت لتخفف، ولو قليلاً، من وطأة الانهيار الحالي عليهنّ.
تعلّق غرايس على الضغوط الاقتصادية التي تؤثر في قضايا النساء، تحديداً لناحية تكاليف المحاكم ورسوم المحامين/ات العالية والتي يصعب على الكثيرات من المتزوجات تأمينها. وتقول: “لولا تكاليف المحامين/ات ولولا أن المحكمة لا تطلب منا مبلغاً كبيراً لفتح الدعوى، لكانت المسألة لِتكون أسهل بالطبع، وكنت ربما غادرت أبكر!”.
لا تختلف تجارب النساء كثيراً لجهة ما يقاسينه من ظلم على أيدي أزواجهن أو في أروقة المحاكم، وإن تبدّلت أسماؤها والطائفة التي تحكم باسمها. وللناشطة النسوية علياء عواضة حصتها من مسار الكفاح من أجل الحق والذي لم تتمكن من طي صفحته بعد.
كلتا الصبيتين عانتا الأمرّين من سلطة ذكورية وتأجيل قسري فرضته ظروف قاهرة، لكن كلاً منهما أيضاً أصرّت على أنها “أكثر حظاً” من نساء أخريات عالقات لم تتكلل مساعيهن للخلاص بالنجاح بعد، أو نساء غير مستقلات مادياً، أو أمهات محرومات من العيش مع أطفالهن، لا بل حتى من رؤيتهم في بعض الأحيان.
الجسد يتعب أيضاً
“حين يكون بمقدورك إدارة معركتك في الحيّز الخاص، تشعرين أنه، وعلى رغم كل الصعوبات التي ما زلتِ تواجهينها، من الأفضل الاستمرار في خوضها ضمن الإطار الخاص لتبقي بذلك المساحة العامة والأوسع مخصصة للإضاءة على قصة امرأة تتألم أكثر منكِ، أو امرأة لا تمتلك رفاهية الدفاع عن حقوق أمتلكها أنا إلى حد ما”.
بهذه الكلمات، تشرح علياء، 36 عاماً، لـ”خطيرة” سبب عدم حديثها كثيراً عن قصتها كأم تعتني لوحدها بابنها البالغ من العمر ستة أعوام، وتتولى لوحدها مسؤولية تأمين معيشته، بعد أن حصلت على الطلاق الرسمي منذ حوالي أربع سنوات.
قصة علياء لم تنتهِ قضائياً عند الانفصال. لا تزال تطالب بحق ابنها بالنفقة التي ما أن تحصل عليه حتى يستأنفه زوجها السابق من جديد، وهكذا دواليك، مع العلم أن الأمر بالنسبة إلى علياء يتعلق بالدرجة الأولى بمصلحة ابنها وحقه في أن يشعر بدعم أبيه وحضوره إلى جانبه.
“تدافعين عن حقوق النساء لكن حقك لا يمكنكِ أن تأخذيه”، تقول علياء.
تُجمع معظم الأمهات على أن الأوضاع الاقتصادية ضاغطة بالفعل، لا سيما في الوقت الراهن، مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية في لبنان. غير أن علياء تضيف تحدييْن آخرين إلى المشهد، هما الإحساس بالذنب الذي يضرب كيان الأم في كل مرة تضطر إلى أن تغيب عن ابنها بداعي السفر أو العمل، ناهيك عن الإرهاق الجسدي الذي يرافق امرأة يبدأ نهارها في ساعات الصباح الأولى ولا ينتهي في منتصف الليل.
وتتوزع ساعات يوم علياء بين أنشطة تخص ابنها وأخرى تتصل بعملها وواجباتها. وهذا الواقع لم يغيره الحجر المنزلي، لا بل فاقمه مع تضاعف المسؤوليات المتوقعة من النساء داخل المنزل.
بصراحة، يتحدثون عن المرأة المطلّقة كأنها حكماً أم عزباء، لكن في الحقيقة هناك الكثيرات من الأمهات المتزوجات اللواتي يتولّين مسؤولية أطفالهن لوحدهنّ من دون تلقي أيّة مساعدة… ألا يجعلهن ذلك أمهات عازبات أيضاً؟
الأمومة العزباء حق للنساء
لم تأتِ جميع النساء اللواتي استمعنا إلى قصصهن من خلفيات حقوقية بالضرورة، لكنهن عبّرن، ومن دون تردد، عن اعتزازهن برحلتهن التي جعلت منهن نساءً مناضلات، بالخفاء أو بالعلن.
هنّ نساء قفزن فوق حواجز اجتماعية رثة واستمتعن بأمومتهن وجاهرن بإيمانهنّ بحق كل امرأة بأمومتها الخاصة، من داخل الزواج أو خارجه، وتمنين أيضاً لو تتوفر حرية اختيار الأمومة العزباء لمَن ترغب بها.
إلى ذلك، لاحظت الأمهات تقبّلاً أكبر من حولهنّ لأشكال مختلفة من الأطر المنظمة للأمومة، لا سيما في أوساط صديقاتهنّ اللواتي لا يرغبن بالزواج بقدر ما يرغبن بالأمومة. وهؤلاء النساء والأمهات سبقنَ، بالفكر أو الممارسة، القوانين ومشرعيها في تشكيل تلك الأطر وتظهير احتمالاتها وصولاً يوماً ما إلى فرضها كحق وأمر واقع.
بالنسبة إلى سارة، “يحق لكل امرأة راغبة في أن تكون أماً أن تنجب طفلاً، إذا كانت قادرة فعلاً على حمايته وتحمل مسؤولياته، حتى خارج إطار الزواج. فالزواج في النهاية كلمتان على ورقة رسمية… وخلص”.
أما غرايس، فتتذكر أنها كفتاة صغيرة لم تكن تحلم بالفستان الأبيض وبناء أسرة بقدر ما كانت تحلم بالسفر واكتشاف العالم والتعرّف على أشخاص جدد.
“أعتقد أن الزواج مؤسسة غير ناجحة. باستطاعة أي راشديْن يحبان بعضهما البعض أن يهتما بطفل بدون الارتباط قانوناً. أحبُّ الأطفال وما زلتُ أرغب بإنجاب طفل آخر، لكن من دون المرور بالزواج بالضرورة”، تقول غرايس.
“الأمومة خيار شخصي للنساء وليس من حق أحد أن يفرض على النساء ما إذا كنّ سيتزوجن أم لا. كنت أتمنى لو توفَّرَت في لبنان إمكانية إنجاب المرأة خارج إطار الزواج بدون عراقيل، فتكون بذلك لها حرية الاختيار وإمكانية اختبار الأمومة،” تعلق علياء.
وتضيف: “بصراحة، يتحدثون عن المرأة المطلّقة كأنها حكماً أم عزباء، لكن في الحقيقة هناك الكثيرات من الأمهات المتزوجات اللواتي يتولّين مسؤولية أطفالهن لوحدهنّ من دون تلقي أيّة مساعدة… ألا يجعلهن ذلك أمهات عازبات أيضاً؟“.
أنجزت هذه المادة بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ Rosa Luxemburg