كتابة وفاء خيري
حلمت خبات عباس منذ طفولتها بدراسة الصحافة ولكن لم يكن ذلك سهل المنال فدرست الأدب الإنجليزي، إلى أن قامت الثورة السورية وفرض عليها الواقع أن تصبح صحفية، لكن في ظروف صعبة للغاية، إذ كان عليها أن تصبح صحفية حرب.
بدأت خبات برفقة مجموعة من الأصدقاء عملهم الصحفي بتغطية المظاهرات ونقل أحداث الثورة من شمال شرق سوريا، متحدين خوفهم وعدم قدرتهم على التنبؤ بردة فعل الحكومة تجاه نشاطهم. امتهنوا العمل الصحفي وسط خبرة منعدمة وموارد بدائية خاصة وأن منطقة “روج آفا” القادمين منها كانت تفتقر إلى وجود صحافة محلية ولم تتلق الدعم الكافي من المنح والتمويل، بعكس مناطق النظام.
عندما بدأوا، كانوا يفكرون في الصحافة كأداة للتوثيق لا للتغيير، كي تكون هذه الصور شهادة على ما يعيشونه غدًا. “لولا هذه الصور لم يكن أحد ليعرف حجم الكارثة التي نمر بها” تقول خبات لـ”خطيرة” وتستكمل شارحة مدى خطورة الصحافة في ذلك الوقت: “عندما بدأنا صحافة كان من الأسهل أن أحمل السلاح على أن أحمل كاميرا، فكانت الصحافة مقتصرة على الترويج للنظام السوري والترفيه، كما لم يكن لدينا مراجع أو مؤسسات نقتدي بها، فكنا نبدأ التجربة من الصفر ودون مساعدة”.
وفي ظل الإمكانيات الضعيفة والصلاحيات المحدودة للإنترنت وقتها، عام 2012، تعلمت خبات الصحافة من تلقاء نفسها إذ كانت تجمع موادًا من الإنترنت من مقهى عام، وتنقلها إلى حاسوبها المنزلي لتذاكرها.
“الصحافة ليست للنساء”
إلى جانب التحديات العملية والوضع العام في منطقتها، واجهت خبات تحدٍّ آخر بحكم أن المجتمع الذكوري لا يعتبر كل المهن صالحة للنساء: “أن أكون امرأة صحفية في مجتمع يرى الكاميرا فقط في الأعراس، كان أمرًا صعبًا، فوالدتي كانت تخجل مما أفعل لأني أحمل الكاميرا وأقف على حوائط عالية لتغطية المظاهرات، هذا عيب.” كما كانت والدة خبات قلقة على مظهرها اجتماعيًا وتعتقد أن أحدًا لن يتزوجها بسبب عملها.
رغم ترحيب المجتمع الكردي بانخراط النساء في الحروب كمقاتلات جنبًا إلى جنب الرجال، إلا أن ذلك لا ينطبق على الصحافة وفقًا لخبات.
وصلت مشاحنات خبات مع والدتها إلى الخصام بالأيام. “بالنسبة لمجتمعي كنت أشبه بالهاوية التي تلتقط صورًا، لم تكن هذه النظرة تعوقني ولكنها كانت تشعرني بالخجل أحيانًا” تقول المراسلة الحربية.
قللت هذه المخاوف من رغبة خبات في المشاجرة مع أهلها والمجتمع ما جعلها تتجنب العمل في بعض الأوقات، مثل أن تتفادى العمل ليلًا وتوكل المهمة لزميل.
إضافة إلى ذلك، تواجه خبات تحديات أخرى لكونها امرأة، مثل الدورة الشهرية التي قد تأتيها بشكل مفاجئ وفي غير موعدها بسبب التوتر الناجم عن القصف وظروف الحرب الصعبة. في البداية كانت تشعر بالإحراج لعدم قدرتها على التصرف وهي وسط زملائها الرجال دون أن يكون لديها فوط صحية أو أي مكان تلجأ إليه تحت القصف، فتربط أي شيء على وسطها إلى أن تذهب إلى مكان يمكنها التصرف فيه.
ولكن على الجانب الآخر، وجدت خبات بعض الإيجابيات لكونها امرأة، إذ استطاعت التواصل مع النساء اللاتي لا يختلطن ولا يتعاملن مع الصحفيين الرجال أبدًا؛ دخلت بيوتهنّ وأعدت معهنّ القهوة، كما حصل عند تغطيتها لقصص الإيزيديات اللاتي تعرضن للاغتصاب.
كنت أرى أهلي يقتلون
واجهت خبات برفقة زملائها الصحفيين مصاعب عدة خلال رحلة عملها الشاقة، ولكن أصعبها كان عندما هاجمتهم جبهة النصرة عام 2013 أولًا ثم داعش.
“كنت أرى أهلي يقتلون، وأتساءل هل أحميهم أم أغطي الحرب؟ كيف أتعامل في هذه الظروف، وأنا لا أرتدي حتى خوذة، أو أعرف أي إجراء حماية يمكن أن أتخذه؟” تقول خبات.
خلال مسيرتها الصحفية شاهدت خبات الكثير من المشاهد المؤلمة لجرحى وقتلى حيث حملت الكاميرا بتلقائية لتصور أشلاء الجثث، أما في أحيان أخرى كانت تصمت وتنكمش على نفسها ولا تدري ما الذي تفعله أو يحدث حولها. مشاهد القصف والمباني المدمرة بالكامل جعلتها تتساءل إذا كان هناك جدوى مما تفعله.
لجأت خبات إلى طبيب نفسي بعد تجربتها الصحفية العنيفة بسبب الكوابيس المستمرة التي كانت تراودها في منامها، إضافة إلى شعورها باضطرابات نفسية مختلفة في الأكل والنوم والحياة اليومية. إثر فقدانها لبعض أصدقائها شعرت خبات أن شيئًا ما خمد فيها. لم تبك أو تأخذ أي رد فعل، ولم تستطع حتى حضور الجنازات.
خوف دون استسلام
رغم كل الألم الذي تعرضت له خبات، إلا أنها ترى اليوم أن الأمر استحق كل ذلك المجهود، خاصة بعدما رأت ثمار ما بنت:”كانت فرصة جيدة لإعادة تأهيل المجتمع الكردي شمال شرق سوريا وإعطائهم الفرصة لأن يتحدثوا باسمهم”، تقول خبات مشيرة إلى زيادة الوعي بقيمة الصحافة الاجتماعية والتضامن مع الصحفيين، فهي تشعر اليوم أنها ليست وحدها في المشهد، بل أصبح هناك مجتمعًا يؤمن بأهمية توثيق الحرب ويستشعر دور الصحافة في إيصال قصصهم للعالم. ” لم نعد ننتظر صحافة عامة تغطينا، بل نحن من ننقل أخبارنا للعالم”.
مع مرور الوقت والممارسة طوّرت خبات من خبرتها وحصلت على جائزة رويترز عن فئة الـ fixer. ألهمت هذه الخطوة نساء كثيرات وتمكنت من تغيير آراء المجتمع حولها بمن فيهم والدتها، خاصة وأنها كانت أول امرأة تحصد على هذه الجائزة.
تغطي خبات حاليًا كردستان العراق وتواجه ظروف أصعب، خاصة كامرأة، بسبب تعقيدات السفر والتعامل مع بلد آخر، على عكس سوريا التي كانت تعمل فيها وسط أهلها، ولكنها ما زالت تشدد على أهمية الاستمرار في النضال والحلم بغد أفضل لكل الشعوب والنساء العربيات، وتختم قائلة “أرى أنه يتوجب علي حكاية قصص الناس وتوثيقها. كواجب أخلاقي، لا بد أن أكمل ما بدأته، هذه هي الوسيلة التي أعرفها، فأنا أقاتل من أجل سوريا والصحفيين، لذلك لا مجال للرجوع”.