كتابة: عبير أيوب
غادرت غزة وحدي في عام ٢٠١٦ بحثاً عن فرص لحياة أفضل خارجها، وتنقلت بين أوروبا وعمّان إلى أن تزوجت وانتقلت أخيراً إلى مدينة إسطنبول التركية. ثم عدت وزرتها عام ٢٠٢٢، ولكن هذه المرة لم أكن لوحدي، كانت ابنتي جمانا ترافقني في عبور مجموعة من الحواجز ونقاط التفتيش بدءً من الأردن ووصولاً إلى حاجز إسرائيلي على حدود غزة. ثم عدت وزرت مدينة غزة قبل أقل من ستة أشهر برفقة جمانا أيضاً.
عندما غادرت قطاع غزة في المرة الأخيرة ذهبت إلى عمان لكي أركب طائرة تقلني من مطار الملكة علياء إلى إسطنبول، فنحن في فلسطين لا نمتلك مطاراً، فنجبر للسفر إلى الأردن أو مصر كي نسافر جواً. هناك، التقيت صديقاً لي سألني سؤلاً قصيراً، ولكن إجابته بدأت معي رحلة طويلة استمرت إلى الآن. “عبير انت كيف بتاخدي بنتك ع مكان زي غزة”؟
شعرت حينها أنني بحاجة للدفاع عن نفسي، فقلت أنني لا آخذها هناك في الأوقات التي تشهد تصعيدات عسكرية إسرائيلية، وأنني قادرة على قراءة المشهد في قطاع غزة فأذهب عادة بعد أن تنتهي المعارك بوقت قصير، فلا يكون هناك فرصة كبيرة لحدوث حرب أخرى في الوقت القريب. لكن إجابتي لم تقنعه، فقال أنني إذا كنت مضطرة للذهاب إلى غزة لزيارة عائلتي، يجب علي أن أترك جوجو مع والدها في مدينة إسطنبول. هذا الخيار ليس مطروحاً بالنسبة لي، أنا لا أستطيع أن أبدأ صباحي قبل النظر في أعين ابنتي.
لم أفكر في هذه المحادثة طويلاً، إلا بعد أن بدأت الحرب المسعورة على غزة اكتوبر الجاري. الصور المروعة الآتية من هناك لأطفال يقتلون ويجرحون ويشردون بشكل يومي جعلتني أفكر، هل كان محمد محقاً عندما سألني سؤالاً يمكن أن يصاغ بطريقة فجة وواضحة مثل : “إنتو كيف بتخلفو وبلادكم فيها حرب”؟ جلست أفكر إن كان فعلاً يتسنى علينا نحن المعذبين في الأرض أن نتوقف فعلاً عن الإنجاب وزيادة عدد المعذبين في الأرض؟
وفي خضم رحلة التفكير هذه، تلقيت رسالة على الإنستغرام من إبنة عمي تقول لي “يمكن يا عبير انت اللي بتفهمي فينا إنك ما قبلتي تخلفي بنتك هان”. وأنا لا أنكر أنني لم أكن لأفكر في الإنجاب أبداً لو كنت أعيش في قطاع غزة، ليس لأنني فقط أخشى فقدان أطفالي، بل لأنني أريدهم أن يعيشوا حياة أفضل من تلك التي قضيتها هناك، ولا أريد لجوجو أن تعرف الفرق بين صوت صاروخ F16 والآباتشي، لكن هذا يتعلق بقدرتي على تربية طفل في منطقة نزاع، وأنا أعلم جيداً أنني لا أستطيع.
توصلت البارحة لفكرة جعلتني أريد البدء في كتابة هذا النص، أن من يدعي أنه يتسنى على من يعيش في أماكن النزاع أن يتوقف عن الإنجاب، هو يطلب فقط من الطرف الضعيف والذي يمكن أن يتعرض أطفاله للقتل أن يتوقف عن الإنجاب. فمثلاً، لا أتوقع من أحد ممن يؤمن بهذا المنطق أن يطلب من الأمريكان أن يتوقفوا عن الإنجاب لأن دولتهم منخرطة وتنخرط بحروب لا حصر لها. ولا حتى من الإسرائيليين، ذلك لأن فرص قتلهم أقل بكثير. إن من يؤمن بهذا الفكر يعتقد أن الطرف الأضعف عسكرياً مثل الآباء الذين يعيشون في سوريا وفلسطين وغيرها يجب أن يعترف بضعفه هذا، ويتوقف عن جلب المزيد من الضحايا لهذا العنف.
إن هذا المنطق يتجاهل كلياً أن العنف والإرهاب لا مبرر له، وإن كان هناك شيء في هذا العالم يجب أن يتوقف، فهو هذا العنف والإرهاب، وليس إنجاب أطفال لأناس يعيشون تحت هذا العنف والإرهاب.
هذا المنطق نفسه ينطبق على من يطلب من الفقراء أن يتوقفوا عن الإنجاب، مع أن الفقر ليس خياراً، إنما هو نتاج طبيعي للرأسمالية، والفساد، وسوء توزيع الموارد. يذكرني هذا بفيلم كفرناحوم الذي أخرجته نادين لبكي قبل أعوام، وكان يتناول قضية اللاإنجابية على حد زعم من أحبوا الفيلم. إن هذا الفيلم لا يطلب من جميع البشر أن يتوقفوا عن الإنجاب، هو فقط يطلب من الفقراء والمعدومين والمهمشين أن يتوقفوا عن الإنجاب لأنهم سيجلبون المزيد من الأطفال الفقراء إلى هذا العالم. ثم أن الفقر والغنى ليسوا حالات أبدية، فهناك من ولد غنياً وانتهى به الأمر بالإفلاس، هل يعني ذلك أن نطلب بسحب أطفاله منه؟
بالمناسبة، أنا لا أرفض الفكر اللاإنجابي بصورة عامة، بل أحترم من لديه هذه القدرة على أن يعترف أنه لا يريد جلب أطفال يعيشون في هذا الكوكب المدمر، وودت لو كنت بهذه القوة التي تجعلني أن أتجاهل رغبة الأمومة لدي، لكن أنانيتي طغت. قررت أن أنجب إبنتي جوجو، على أن أعمل كل ما بوسعي أن تعيش حياة كريمة، فرفضت ولا زلت أرفض أن تعيش في قطاع غزة. قبل زواجي، قرأت الكثير وشاهدت الكثير من المحاضرات التي تدعو البشر للتوقف عن الإنجاب لأن العالم لم يعد مكاناً صالحاً للعيش، وهذا منطق أقبله، لكنني أرفض الحكم أخلاقياً على من يعارضه.
في سياق الحرب الراهنة على قطاع غزة، والأصوات التي تقول أن أمهات فلسطين قادرات أكثر من غيرهن على استقبال خبر فقدان أطفالهن، أعتقد أن هذا محض هراء أو افتراء أو الإثنين معاً. شاهدت مقابلة للملكة رانيا العبدالله تقول أن نساء فلسطين يحبون أطفالهن كسائر نساء العالم، ومجرد حاجتها أن تقول ذلك، يعني أن هذه الأصوات التي تجادل بغير ذلك هي أصوات موجودة. لكنني أعتقد أن الحرب في فلسطين هي حرب حياة، وهذا يعني أن من يُقتل هناك يُقتل لأنه لا يزال يرجو أن يمنح فرص الحياة، فرص الحياة التي يحرمون اليوم منها بموافقة ومباركة دولية.
عشت مع أختي الصغيرة تجربة قاسية للغاية عندما أنجبت طفلتها صوفيا قبل عام واحد وهي لا تزال في الشهر السادس من الحمل. ولدت صوفيا مع مشاكل في القلب والرئتين، فعاشت تسعة أشهر تتنفس بجهاز تنفس إصطناعي. حاربت صوفيا كثيراً وتشبثت بالحياة ما استطاعت إليها سبيلا، لكنها تعبت فقررت المغادرة. بعد بدء الحرب على غزة، كتبت ياسمين على جروب العائلة على واتس آب جملة قسمت قلبي نصفين، “حمدلله حبيبتي صوفيا نايمة بسلام، كانت خافت كتير هلأ”. هل تحب ياسمين ابنتها صوفيا أقل من أي أم في العالم؟ بالطبع لا! لكنها تخيلت كيف كانت ستكون حياتها إذا انقطع التيار الكهربائي عن جهاز تنفسها. هل تتحمل ياسمين مسؤولية قطع الكهرباء عن أكثر من مليوني مواطن لأكثر من أسبوعين الآن؟ لا، العالم كله يتحمل ذلك، ويعرف أنه قادر على إمداد غزة بالكهرباء لكنه يفضل أخذ مقعد الجبناء، ولوم الضحايا.
أعتقد أن الأصوات التي تنادي بالبشر أن يتوقفوا عن جلب المزيد من ضحايا الفقر والعنف والحروب، هم أجبن من أن ينادوا بوقف الفقر والعنف والحروب. هم لا يريدون أن يقوموا بالنظر على المشهد من بعيد، لا يريدون أن يعترفوا أن هناك من يرى هذا الفقر والعنف والحروب ويتجاهلها، بل ويشارك في خلقها. أكتب هذه السطور وأنا أجلس وأشاهد مجلس الأمن مباشرة على الهواء وهو يفشل في التوصل إلى وقف إطلاق نار في قطاع غزة، لأن هناك من عارض القرار. نعم، هذه هي الصورة البعيدة، هناك من يعارض وقف شلال الدم في غزة ويراه مبرراً، وهناك من لا يستطيع أن يرى بشاعة هذه الصورة، ويقرر ببساطة لوم الضحايا الواقعين تحت إطلاق النار هذا، بل ويطلب منهم التوقف عن الحياة.