كتابة: ندى جمال
الأفلام الكوميدية المصرية هي أكثر ما تعلقتُ به منذ طفولتي. كنت أحفظ إفيهاتها أكثر من ممثلي الأفلام ذاتهم، ولكن سرعان ما لاحظت أن الرجال هم غالبية من يتلفظ بها مقارنة بالنساء. أما القلة من الممثلات اللاتي ارتبطت الإيفيهات بهنّ فكنّ يلعبن أدوارًا ثانوية وقد تنتهي مسيرة الممثلة منهنّ عند هذا الإفيه فلا نجد لها مشاركات جديدة ولا يحاول القائمون على الصناعة استثمار موهبتها فيما بعد أو إنتاج فيلم من بطولتها، مثلما حصل مع الممثلة الراحلة نبيلة السيد، وهي ممثلة مصرية تألقت في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي وكان لها أدوار ثانوية في العديد من الأفلام مثل “خلي بالك من زوزو” أو “البحث عن فضيحة”. صحيح أننا ما زلنا نردد إيفيهاتها مثل “طخه بس ماتعوروش يا بوي” أو “عريس يا بوي” ولكن هذا كل ما في الأمر. عُرفت نبيلة بأنها ممثلة “الأدوار المساعدة” ولم تُسند لها أدوار بطولة خلال مسيرتها المهنية.
هذا يجعلنا نرى بوضوح هامشية النساء في مجال الكوميديا، ولكن ما السبب؟ هناك إجابة مُعلبة للسؤال وهي أن النساء لم يُخلقن من أجل الكوميديا، وأنهنّ غير قادرات على قول نكتة، ولزيادة ترسيخ هذا الاعتقاد يحاول مؤيدوه إعطاءه حسًّا علميًّا عبر دراسات علمية وأبحاث مُعاد تأويلها تفيد أن الرجال أكثر فكاهة من النساء.
وقد احتفظ هذا الاعتقاد بمصداقيته الزائفة لعقود واستمر خفوت نجم النساء من الكوميديات وضعف مشاركتهنّ في هذا المجال خاصة في العالم العربي، كما انعكست الهيمنة الذكورية للمجتمعات العربية على الكوميديا وجعلتها فنًّا رجاليًا لا مكان للنساء فيه إلا كدور ثانوي أو كمادة مُسلية لإضحاك المشاهد عليها، فأصبح الضحك في السينما والدراما العربية مرتبطًا بالتنمر والسخرية من النساء وأجسادهنّ سواء كانت بدينة أو نحيفة أو سوداء.
في ذات السياق تعتمد الكثير من الكوميديانات على سماتهنّ الشخصية كالبدانة أو القبح في عروضهنّ الكوميدية كالممثلة المصرية شيماء سيف التي تسخر من وزنها في أغلب مسرحياتها مع مشروع “مسرح مصر”. وهو ما قد يؤدي إلى اختزالهنّ وحصرهنّ في قالب يصعب الخروج منه حال تغيّر شكلهن، كما حصل مع الممثلة نورا السباعي التي لم تشارك في أي دور منذ تحولها من البدانة الشديدة للنحافة، أو عائشة الكيلاني التي غابت عن الظهور لمجرد إجرائها جراحة لتجميل الأسنان.
وبكل الأحوال تُنتقد العروض الكوميدية للنساء وفق معايير منحازة وخاضعة لاحتكار ذكوري لصناعة هذا النوع من الفن، كما يتم التعامل معها بصرامة تجعل أي إخفاق لها هو بالضرورة إخفاق لجميع الأعمال النسائية الكوميدية ما يقود العديد من الكوميديانات إلى المكافحة لإثبات قدرتهنّ على الإضحاك بجرأة وجدارة قد يفتقدهما الرجل أحيانًا. لنأخذ الممثلة المصرية “ماجدة زكي” على سبيل المثال، وبغض النظر عن رأينا فيها إلا أنها سيدة تحاول تقديم أعمال كوميدية في مجال جُففت منابعه من سيادة النساء عليه وحين انتُقد مسلسلها “كيد الحموات” في رمضان 2014 لم يتطرق التقييم إلى أدائها بقدر ما كان موجهًا تجاه قدرة النساء على الانطلاق في مجال الكوميديا لحد تمكينهنّ من بطولة عمل بالكامل.
مؤخراً، بدأت مسارح الستاند أب كوميدي تعجّ بالنساء، وتجاربهنّ المتنوعة. في هذه العروض، يمكن استشعار نوع جديد ومختلف من الكوميديا، وهي كوميديا ناقمة تنضح بالسخرية الموجهة والنقد اللاذع. فهؤلاء يرفضن مجاراة نهج كوميدي قديم قوامه التنميط السطحي الذي يسخر من الأجساد، والألوان، ويُطبّع مع ثقافة المجتمعات العربية المهمشة للنساء، ليقدمن في المقابل قضاياهنّ المعقدة ويتحدثنّ عن أمور تتقاطع مع حياتهنّ العادية.
سلمى النجار، 30 سنة، ستاند أب كوميديان من مصر وممثلة صوتية، بدأت العمل في الكوميديا من خلال إحدى الورش عام 2019. لاقت سلمى دعمًا من أفراد عائلتها رغم غياب وعيهم بطبيعة الستاند أب كوميدي. من خلال عروضها تتحدث سلمى عن مواضيع متنوعة منها الثقيل ومنها الخفيف بدءًا من عبد الباسط حمودة إلى اللانجيري إلى هجرة المصريين. “مش شرط علشان أنا بنت يبقى هتكلم عن البنات بس”، تقول سلمى لـ”خطيرة”، “مش دايمًا بختار موضوعات متقاطعة مع حياة البنات، ولكن عندي خطوط عريضة مرتبطة بالبنات سواء في مصر أو في المجتمعات العربية”.
تشير سلمى إلى اختلاف ردة فعل الجمهور للعرض الكوميدي حين تقدمه امرأة، وكيف يؤسس ذلك للتمييز الجندري في مجال الكوميديا ومن ثم وضوح الفجوة بين النساء والرجال في المجال ذاته، حيث توضح أنه مهما كانت نكاتها سببًا في إضحاك الناس فهناك أكواد أخلاقية لا يجب أن تمسها وهو ما يسمونه “موضوعات حساسة”. “في ستاند أب كوميديانز رجال بيقدموا محتوى (شبه) إباحي وشغالين بيه والناس بتضحك عادي ومحدش بيتكلم” تقول سلمى مشيرة إلى ازدواجية المعايير. “إنما البنات لو اتكلمت في شيء مشابه، حتى لو بشكل سطحي، في مليون ريد فلاج بيترفع ويتقالها عيب، وميصحش، وأنتِ بنت، وممكن ده يؤثر على عروضها فيما بعد”.
في المقابل يوجد من يشاهد سلمى ويُعجب بأدائها المخالف لتوقعاته المسبقة فيقول “مادحًا”: “واو أول مرة أشوف بنت بضّحك”، أو “إيه ده إنتوا طلعتوا بضّحكوا وبتعرفوا تقولوا نكت”. تستنكر سلمى للفكرة المغلوطة عن أن النساء “دمهم ثقيل” أو “مش بيضحكوا” خاصة وأن الإنتاج المصري غزير بأمثلة لنساء كثر استطعن إضحاك الجمهور مثل زينات صدقي التي تألقت في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، وماري منيب التي كان لها دور فكاهي في ماتشات تمثيل مع عبد الفتاح القصري.
وعن أهم الصعوبات التي واجهتها في البداية تقول سلمى “أنا لما بدأت في 2014 كان وقتها الستاند أب كوميدي لسه بيزدهر في مصر وفي العالم العربي، وبالتالي مكنش في حد يرشدني ومفيش مصدر اتعلم منه أكتب إزاي، أو طريقة العرض بتكون إزاي، وبالتالي أنا اتعلمت بالتجارب والممارسة وهو شيء صعب، بالإضافة لصعوبة الارتجال مع الجمهور”.
الحديث عن التمييز على أساس الجنس في مجال الكوميديا العربية وهيمنة الرجال عليها لا ينتهي، ولكن ماذا عن عوامل أخرى كالجنسية أو اللغة؟ هل تُتنزع صفة الكوميديا أو الطرافة وخفة الظل عن لهجة معينة دون أخرى؟
إيمان خلوف، ستاند أب كوميديان أردنية، 41 عامًا، من أب فلسطيني وأم تركية. وُلدت إيمان بالإمارات واستكملت حياتها في الأردن ومن ثم برلين ما خلق لديها حسًّا فكاهيًّا متعدد الثقافات يلائم جماهير متنوعة. “تنميط أدوار ومساحات البنات في الكوميديا هي شيء عالمي، ولكنه أكثر شيوعًا في المجتمعات العربية، لأنو أحنا عنا مسألة العيب والحرام” تقول إيمان.
إلى جانب كونها امرأة تواجه إيمان عائقًا يتمثل بالصورة النمطية الشائعة عن صرامة الأردنيين وجديتهم مقارنة بالشعوب المجاورة حيث ترتبط معظم الأعمال الكوميدية بمصر ولبنان وسوريا، أما الأردن يبقى غائبًا نسبيًا رغم رواج المشهد الكوميدي فيه خلال السنوات الأخيرة ورغم ضم تراثه مسرحيات تألقت فيها عدد من النساء في دور البطولة مثل عبير عيسى في مسرحية “العم غافل” ومسرحية “يا أنا يا هو” في ثمانينات القرن الماضي، وكذلك مسرحية “اللعبة” التي شاركت فيها الممثلة هالة هادي.
من خلال عملها مع الشباب والشابات في مجال الكوميديا تلاحظ إيمان أن ثقة الرجال بأنفسهم تفوق ثقة النساء حتى عندما تتحلى النساء بحس فكاهي أفضل والسبب في ذلك من وجهة نظرها هو الخوف من المحاذير المتراكمة التي تتحملها النساء دونًا عن الرجال. إذا كنتَ ستاند أب كوميديان رجلًا كل ما عليك أن تفكر فيه هو مسيرتك المهنية وإبداعك في الإفيهات والنكات. أما إذا كنتِ فتاة، بالإضافة إلى كل ما سبق ستفكرين في نوعية الموضوعات التي عليك أن تتجنبي الحديث فيها حتى لا يتم وصمك ووصم عائلتك. عليكِ التفكير في لبسك على المسرح. وعليكِ كذلك تقمص دور الرجل أكثر من اللازم ليؤخذ كلامك على محمل الجد عند إستئجار مكان للعرض وهو ما تعتبره إيمان أمر بالغ الصعوبة.
“أنا في مرات بتهاجم لأني ما بحكي مثل البنات من حيث مستوى الصوت وطريقة الإلقاء” تقول إيمان، “بخاف من مهاجمتي، من إنو حد يصرخ علي أو يؤذيني”. حتى الآن لم يحدث ذلك، ولكن مراعاة الأمان أمر لا يغيب عن بال إيمان رغم أنها على المسرح تبدو شخصية جريئة.
إذن تتطلب الكوميديا من النساء مهارات كثيرة إلى جانب خفة الدم والقدرة على ابتكار الإفيهات والمرح أهمها التوجس والاستشعار وتقييم الحالة لضمان أقل قدر ممكن من الخسائر في مجتمع يهمس بشكل متواصل في آذانهنّ “أنتِ ما لازم تضحكينا إلا باللي إحنا منسمحلك تضحكينا فيه”، بحسب قول إيمان.