كتابة هيا علام
كادت صديقتي أن تموت حزناً بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي مشفى المعمداني في غزّة يوم 17 أكتوبر 2023. شعرت أيضاً إني أموت، لكني تذكرت فيديو لمستوطنة إسرائيلية تتمنى موتنا جميعاً. تخيلتها وأنا أسمع نبضات قلبي المضطربة وبكائي، تخيلتها تسعد برؤيتي وكم يشفي قلبها أن أموت حزناً. شاركت صديقتي هذه الفكرة، انتظمت ضربات قلبينا وبطريقة ما استطعنا الاستيقاظ في اليوم التالي لنصطدم بمحاولات تبرئة الاحتلال الإسرائيلي من جريمته. لم ندرك في لحظتها أن أمامنا معركة إعلامية طويلة بحاجة “النفس الطويل” الذي دعت إليه الشهيدة شيرين أبو عاقلة.
الفلسطينيون الذين استيقظوا في اليوم التالي، أو أشرقت عليهم الشمس بكل الأحوال، ونحن الذين استيقظنا ولم نمت حزناً بعد كان علينا مواجهة بجاحة إنكار جرائم الاحتلال، صك غفران موقع من جو بايدن الذي قال على الفور أنها من فعل “الفريق الآخر” وكأنه في مباراة كرة قدم يحرص فيها على تشجيع “فريقه” جيداً. لم يذكر حتى اسم حماس، ولم يذكر فلسطين، فريق آخر مجهول علينا تأويله. مجهول يساوي فراغ يمكن تعبئته بما يتفق عليه لاحقاً، لربما ارتأى أن استخدام مجهول مثل “الفريق الآخر” سيخفف عنه اعتذارات عن الأخبار المزيفة التي لم يتوانى عن نشرها إلى الحد الذي تسبب بجريمة كراهية ضد طفل فلسطيني في أمريكا.
كذبة قطع رؤوس الأطفال ما زالت تتداول رغم نفيها رسمياً، وهذه هي القوة المريعة للأخبار المزيفة والمضللة ذات الانتشار السرطاني، إذ يكفي التعرض للخبر عدّة مرات أو مرة واحدة بقوة ليعتقد القرّاء لاحقاً أن كل الأخبار المشابهة له صحيحة بحسب نظرية تأثير الحقيقة الوهمية Illusory truth effect. يستمر هذا التأثير لمدة أسبوع تقريباً.
التضليل العالمي الذي شاركت فيه وسائل الإعلام الكبرى لم ينجح في جرف معه كل الأصوات الإعلامية ما يدعو للتفاؤل وسط هذا الظلام. فرغم هذه الفوضى، يعمل نشطاء وصحفيون عرب بلا كلل لتوضيح الحقائق دون الاستسلام لفكرة أن جمهورهم يعرف الحقيقة بالفعل، أي بطموح ساع لتقديم مواد يمكن استخدامها على نطاق أوسع. كما وتعمل بالتوازي وسائل إعلام عربية بدقة واستنفار كبيرين لتدارك هذا السيل من التضليل.
بشكل خاص، عملت منصات التحقق مثل إيكاد ومسبار للوصول إلى الحقيقة التي نعلمها جميعاً، حيث نشر مسبار العديد من المواد التي تفند الكذب الإسرائيلي بالأدلة، وتحليل أوجه التضليل في وسائل الإعلام الغربية.
التضليل كنمط متكرر
في الحقيقة، كان إنكار الاحتلال الإسرائيلي لجرائمه متوقعاً. لم تكن هذه المرة الأولى التي يحاول فيها التنصل من جريمة موثقة. قبل عام، قتل الاحتلال مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة أثناء تغطيتها اقتحام جيش الاحتلال لمخيم جنين. حاول الاحتلال إنكار تعمده القتل، حتى ظهرت أخيراً نتائج تقرير لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة بتاريخ 25 أكتوبر العام الجاري، والتي ذكرت أن إسرائيل استخدمت القوة المميتة غير المبررة في استهدافها للصحفية.
نحن نعرف ذلك بالفعل فهل علينا أن نفرح أن الحقيقة ظهرت في هذه الأيام بالذات؟ أهذه رشوة لإسكات أصوات المحققين العرب الشباب الذين يعملون منفردين على السوشل ميديا أو مع منصات تحقق عربية؟ دعوا كل شيء للجان دولية فحسب؟ قد يبدو هذا تفكيراً مؤامراتياً لكنها أسئلة مشروعة تُطرح في ظل كل ما يحدث.
أتساءل إن كان علينا الوقوف لسنوات في انتظار التحقيقات بشأن الاستهداف المتعمد والانتقامي للصحفيين في غزة، وهل ستحتاج اللجان الدولية لسنوات أخرى كي تأتينا بالحقيقة التي نعرفها جميعاً؟ وهل ستأتي مغلفة بفلّين حماية مصنوع من الوقت والمبررات؟
محاولات شكلية للحفاظ على ماء الوجه
ربما قد بدأت بعض وسائل الإعلام الغربي بملاحظة استنكار الرأي العام من انحيازها وسوء تقديرها ما دفع بعضاً منها إلى محاولات فاشلة في تبني روايات تدّعي الإنصاف والتوازن. تأتي هذه المحاولات خوفاً من السقوط بشكل مدو كما حدث مع CNN و الBBC مدركة أن دحض الأدلة المزيفة أمر يمكننا أن نقوم به نحن بأنفسنا، ننشره على السوشيال ميديا بلغات مختلفة، يُحذف ونعيد نشره، ويُحذف فنعيد نشره.
من ضمن هذه المحاولات الشكلية مقال نشرته النيويورك تايمز بتاريخ 25 أكتوبر يدحض رواية الاحتلال الإسرائيلي في محاولته لإنكار مسؤوليته عن قصف مشفى المعمداني. “يرجح” المقال أن الصاروخ لم ينطلق من غزة بل كيبوتس ناحل عوز.
قد يبدو مقال كهذا خطوة إيجابية تجاه إعلام بدأ يكتشف أغلاط ماضيه، ولكنه في الحقيقة يهدف إلى حماية الصحيفة من أي اتهامات مستقبلية أكثر بكثير من اهتمامه بالدفاع عن الحقيقة أو المظلومين، والدليل هو ما نشرته وتستمر النيويورك تايمز بنشره إلى جانب هذه المحاولات الحرجة والضئيلة من مقالات مضللة تساوي ما بين الطرفين في أحسن أحوالها وتشيطن الفلسطينيين في أسوئها.
فنجد مثلًا مقالة رأي على الصفحة الأولى، يعود تاريخها لما قبل المقال المشكك برواية الاحتلال بيوم واحد فقط، بعنوان:”جمهورية الخوف والتضليل الفلسطينية“. يدّعي كاتب المقالة بريت ستيفنز أنه ومن خلال تجربته بالعمل مع صحافيين فلسطينيين، فإن خوفهم من سلطاتهم يمنعهم من قول الحقيقة لذا لا يجب تصديق الصحافة الفلسطينية ولا الأرقام التي تقدمها وزارة الصحة التي يدعي أنها مجرد جهة تدعم الإرهاب. وبذلك يحاول ستيفنز أن يقي الاحتلال والغرب من الحقيقة التي يقدمها الصحافيون الفلسطينيون. تبنّى الرئيس الأمريكي جو بايدن هذا الخطاب وقال صراحةً أنه لا يثق بالأرقام التي يقدمها الفلسطينيون. ومجدداً جاء الدليل الذي يضرب بكلام بايدن والصحفي بريت ستيفنز عرض الحائط بقائمة بأسماء الشهداء من 212 صفحة. ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي هو إبادة. هذه الحقيقة التي تظهرها الأسماء والأرقام التي لا يستطيع أي صحفي ممن يتخيلهم ستيفنز إختلاقها.
يفترض ستيفنز صحافيين داخل مكاتب بظروف مناسبة للعمل بدوام لساعات معينة، يفندون كلماتهم خوفاً من سلطة ما. هذا الافتراض يعني بالضرورة أن الاحتلال لا يستهدف الصحافيين، وأنهم لا يعملون تحت القصف لدرجة أنهم يغطون استشهاد أفراد عائلاتهم، فعن أي خوف يتحدث؟ ومجدداً يثبت يوماً بعد يوم الاستهداف المتعمد للصحافيين أن فرضيات كهذه مجرد إدّعاءات ستدين قائلها.
قبل ظهور قائمة أسماء الشهداء، كتب الصحفي الغزاوي سالم الريس منشوراً على فيسبوك يسبق إعلان النيويورك تايمز بساعات يقول فيه: “يسألني صديق عزيز، كيف لنا أن نواجه رواية الاحتلال الإسرائيلي المدعومة من الغرب والتي تدعي أن وزارة الصحة بغزة تهول من أعداد الضحايا، ومع الأسف، لا قائمة بأسماء واضحة بأسماء ضحايا عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة حتى الآن؟ يكفي شهادتنا نحن الصحفيون والصحفيات، تكفي مشاهدتي أنا وبالعين المجردة. يومياً تخرج أكثر من 50 جنازة في الصباح الباكر من مستشفى ناصر بخانيونس، عدا عن باقي المستشفيات، وعن باقي اليوم، وهو كفيل بالتأكيد على أن الاحتلال يقتل يومياً ما لا يقل عن 400 إلى 600 مدني”.
نحن نصدق ونرى بأم أعين الصحافة الفلسطينية بينما يحاولون هم تأجيل رؤيتهم لمئات السنين ربما آملين أن نتحول إلى خبر مشابه لخبر اكتشاف قبور أطفال السكان الأصليين في كندا، ليعترفوا أن شخصاً ما في الماضي لا يحملون وزره فعلها وأن التراب غسل الدماء عن نسل القتلة. لا يمكن لهذا أن يحدث مع وجود إعلاميين مصرّين على إظهار الحقيقة ساعة بعد ساعة وسط الخطر في معركة حقائق ربما تعيد تعريف المهنية الصحفية، المهنية التي يهاجمها رئيس وزراء الاحتلال السابق يائير لابيد بقوله “إن كان الإعلام العالمي موضوعي فهو يخدم حماس”. لابيد بات يدرك جيداً أن سلاح الإعلام يتزعزع الآن.






