كتابة هبة أنيس
في الأول من أكتوبر ٢٠٢١، اكتشفت أسماء حملها في الأسابيع الأولى، بعد ما يقرب ٨ أشهر من الزواج، لتشعر أنها على بداية تحقيق واقع كانت تسعى الوصول إليه: زواج من شخص تحبه، ووظيفة في مكان راق، ليتوج الأمر بطفل يكمل الصورة التي أرادتها.
أسماء سعيد، تبلغ من العمر ٣٢ عامًا، كانت تعمل بأحد المكاتب الهندسية بمدينة القاهرة، وهو العمل الذي التحقت به بعد زواجها بما يقرب من شهرين، عندما بهتت فرحتها بالحمل الجديد لأسباب تتعلق بالعمل: “أول معرفت إني حامل٬ تاني يوم أخدت معايا حلويات عشان أحتفل مع زمايلي ومديري في المكتب، بس لقيت منه رد فعل غريب، ضحك بسخرية وقال هنبدأ بقى أعذار وإجازات ومش هقدر آجي النهارده. في الأول افتكرته بيهزر”.
السخرية التي تحدث بها مدير أسماء كانت بداية طريق جديد لانتهاكات غير مباشرة ضدها، كما وصفت في حديثها لـ”خطيرة”، أو ما يمكن وصفه بتمييز لأنها حامل. فمن وجهة نظر مديرها لن تقدر بعد حملها على مواصلة العمل بكفاءة، وربما تحتاج لإجازة وضع طويلة، مما سيضر بالعمل، وهو المنطق الذي يسيطر على أغلب القطاعات في مناطق عدة، رغم منح القانون المصري إجازة مدتها ٩٠ يومًا بتعويض مساو للأجر الشامل تشمل المدة التي تسبق الوضع والتي تليه، كما أنه لا يجوز تشغيل المرأة خلال ٤٥ يومًا التالية للحمل.
بعد أقل من شهرين تصاعدت الأمور رغم حرص أسماء على الحضور يوميًا في المواعيد المحددة للعمل، وإكمال العمل المطول الذي قد يتطلب الاستمرار لعدد ساعات أطول: “المدير وقتها جاب بنت صغيرة متخرجة جديد وطلب مني أدربها على الرسومات الهندسية المطلوب مني أعملها. استغربت أوي وسألته ليه، قالي عادي مجرد تدريب وتعليم للأجيال الجديدة، حسيت وقتها إنه شوية بشوية يتخلص مني، وده كان باين من تعليقات سخيفة يوميًا لازم يدّخل فيها الحمل مع إني كنت ملتزمة بالشغل أكتر من الأول، هدفي كان أنجح في الاتنين”.
الحماية القانونية غير الفعالة
تُحذر المادة ٩٢ من قانون العمل المصري على صاحب العمل من فصل العاملة أو إنهاء خدمتها أثناء إجازة الوضع، ولكن ما حدث مع أسماء جاء مخالفًا لذلك. ففي الشهر السادس، طلب منها المدير الحضور لاجتماع هام أخبرها خلاله أن الشركة تمر بأزمة مالية، وعليه سيضطر إلى خفض عدد العاملين بالمكتب، وقرر منحها إجازة مفتوحة دون راتب، حتى تستقر الأمور المالية للشركة.
جاء الأمر بمثابة الصاعقة على أسماء التي أخبرت المدير أنها تريد الاستمرار في عملها الذي تحب، ولا تريد تركه لمجرد أنها قررت أن تلد، فلا تعارض بين الفعلين، لكن تلك المبررات لم تمثل شيئًا لصاحب العمل الذي قرر توظيف مكانها فتاة أخرى ليست متزوجة وبالطبع ليست حامل.
حملت أسماء صندوقًا جمعت به كل متعلقاتها من المكتب بعد محاولات فاشلة لإقناع مديرها استمرت قرابة الساعتين :”مشاعر كتير مركبة، أنا آه نفسي أبقى أم بس مش عاوزة ده ينهي حياتي العملية، وقتها فكرت هو أنا خدت قرار صح ولا لأ، طيب هو ايه الغلط اللي أنا عملته؟”. أسئلة كثيرة وإحساس بالثقل بدأ يراود أسماء، فبعد فرحة غامرة وانتظار مولود جديد، تحول الأمر لعائق أمام الترقي الوظيفي الذي كانت تطمح إليه.
تؤكد المحامية الحقوقية والمهتمة بالشأن النسوي، هالة دومة، أن القانون المصري يضمن للمرأة إجازة وضع مدفوعة تنطبق على القطاع الخاص لكل سيدة أمضت ١٠ شهور في خدمة صاحب العمل إلا أن المؤسسات لا تلتزم بها خاصة وأن الغرامة المفروضة على من يخالف القانون ضئيلة جدًا تتراوح ما بين ١٠٠ ل٢٠٠ جنيه. من الخارج قد يبدو القانون حاميًا للنساء ولكنه يفتقد إلى أدوات فعلية لتطبيقه.
تضيف دومة في حديثها مع “خطيرة” أن المسار القانوني الذي من الممكن أن تلجأ إليه المرأة في هذه الحالة لابد أن يكون خلال ٧ أيام من الفصل وعليها التبليغ في مكتب العمل التابع لوزارة العمل المصرية: “حتى لو مفيش عقد عمل تقدر تثبت سواء بإيميلات أو مخاطبات بينها وبين المدير فيتم مخاطبة صاحب العمل في خلال ٢١ يوم اللي في الغالب مش بيحضر، فوقتها تقدم السيدة طلب ويتحول النزاع للمحكمة العمالية وتتحول لقضية”. لكن أسماء لم تلتفت لهذا المسار: “الحقيقة أنا مكنتش أعرف أصلا إيه حقوقي ولا المدير اتكلم معايا فيها في بداية الشغل، ومكنش فارق معايا تعويض أو فلوس. كل اللي كان فارق معايا أكمل في شغلي اللي بحبه وأكمل في رسم شكل حياتي الزوجية زي ما تمنيت”.
يستمر المسار القانوني وفقًا لحديث دومة لأكثر من عامين لا تحكم المحكمة من بعدها بعودة السيدة للعمل بل بتعويض مالي يكون قد فقد قيمته عند إصدار الحكم، ما يدفع عدد كبير من السيدات تجنب اللجوء إلى القانون.
ظاهرة التمييز ضد المرأة الحامل في مكان العمل ليست محصورة في مصر فحسب ففي الأردن إضافة إلى اشتراط بعض المدارس إحضار فحص حمل ضمن الوثائق المطلوبة للتوظيف، نُشر هذا العام إشعار عممته إحدى المدارس الخاصة تطلب فيه من معلماتها تنظيم الحمل ليلدن خلال الإجازة الصيفية، بحيث تضمن إدارة المدرسة عدم تعطل العمل خلال العام الدراسي إذا ما أخذت إحدى المعلمات إجازة ولادة وأمومة، وهو ما لا يختلف كثيرًا عن اليمن.
حنان صالحي* من اليمن ٢٩ عامًا، قررت تأجيل حملها ليس رغبة منها، وإنما خوفًا من فقدان وظيفة سعت كثيرًا للحصول عليها: “جاء عملي في المدرسة بعد صعوبة كبيرة لأن النساء في اليمن يواجهن صعوبات في البحث عن العمل، وصعوبات عدة لوجودهن ضمن مجتمع ذكوري. ومن جلسات قليلة مع المعلمات علمت أن عددًا من المعلمات السابقات تركن العمل بسبب الحمل”. أحيانا يأتي ترك العمل ليس بطلب مباشر من صاحبه، وإنما لضغوط تتعرض لها السيدة تجبرها على تركه.
في البداية رفض زوج حنان قرار تأجيل الحمل، إلا أن مساهمتها المادية في المنزل جعلته يوافق.
وفقًا للقانون اليمني، يحق للسيدة الحصول على ٧٠ يومًا كإجازة وضع، ولكن تركزت مخاوف حنان حول الاستغناء عن خدماتها قبل الوصول إلى تلك الفترة وخسارة ما وصفته بمصدر دخلها الوحيد الذي يمثل ما يقرب ٧٠% من نفقات المنزل، خاصة وأن زوجها لا يباشر عملًا ثابتًا يمكنه من خلاله التكفل بالمصاريف. يأتي قرار تأجيل الحمل كما وصفته حنان قرارًا طويل الأمد، إلى أن يجد زوجها عملًا آخر لتصبح حينها قادرة على الحمل وقادرة أيضًا على ترك العمل إذا اضطرت لذلك.
التمييز ما بعد الولادة
وفي ظل منظومة تسيطر عليها الأعراف الذكورية، لا يأتي التمييز خلال فترة الحمل فحسب بل وبعد الولادة كذلك، مثل ما حدث مع رسيل ياسين من تونس، والتي كانت تعمل في مجال المحاسبات المالية في إحدى الشركات لمدة ٥ أعوام، ٤ منها قبل الزواج. تقول رسيل: “الجميع يعرف أنني أحب عملي وأمارسه بإخلاص، وهو سبب استمراري في الموقع نفسه لسنوات، وسبب تمسكي به أيضًا بعد الزواج”.
كغيرها من السيدات فكرت رسيل في إنجاب طفل عقب الزواج: “عام واحد قضيته في العمل بعد الزواج فقط، ومع إكمالي لعملي المطلوب، واقتراب موعد الوضع، تقدمت بطلب إجازة. رحب بها صاحب العمل، ووعد بإجازة مفتوحة يمكنني خلالها ترتيب أموري ثم العودة للعمل مجددًا، وهكذا تمنيت، ووضعت لنفسي مهلة قدرها ٣ أشهر للوضع ورعاية الطفل، ثم العودة للعمل مرة أخرى”.
لكن وعد صاحب العمل لم يتحقق٬ فبعد ٣ أشهر وبعد البحث عن حضانة لاستقبال المولود الجديد والاستقرار على واحدة بجوار مكان العمل، تواصلت رسيل مع صاحب العمل الذي أبلغها أنه عين شخصًا آخر ولا يمكنها العودة: “جاءت كل المبررات بأنني لن أستطيع العمل كما كنت سابقًا، وأنه بحاجة لشخص دون التزامات بالرغم أنني طوال فترة حملي وعملي معًا، لم اعتذر يومًا، بل كنت أكمل مهامًا مطلوبة للعمل من المنزل ليلًا”.
النساء وحدهن المسؤولات عن الإنجاب
تأتي اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والتي وقعت عليها أغلب الدول، لتنص على عدم التمييز ضد النساء بسبب الزواج والأمومة ولضمان حقوق النساء في قوانين العمل والدساتير المعمول بها، ولكن ما يحدث على أرض الواقع يعكس غير ذلك. فبالطبع هناك قوانين بنصوص واضحة في كل من مصر وتونس واليمن تحمي المرأة من الفصل التعسفي، لكن المسار القانوني وحده ليس كافيًا بل الأهم منه العمل على تغيير النظرة الذكورية التي تتحكم في كل ما يتعلق بالنساء، والعمل على ثقافة مجتمعية تحصل فيها النساء على حقوق متساوية مع الرجال.
في السياق نفسه يعتقد البعض أن أحد أسباب المشكلة يتعلق بتحميل المرأة عبء رعاية الأطفال دون الرجل ما يهدد حياتها المهنية دون المساس به. ولذلك إن بدأنا بتطبيق إجازة الأبوة للرجل بشكل جدي ومنحناه فترة زمنية معقولة تتعدى اليوم لسبعة أيام وهي المدة المتعارف عليها في معظم البلدان العربية، قد يساهم ذلك في سد الفجوة التمييزية القائمة ضد المرأة خاصة وأن رعاية الأطفال عملية تشاركية غير محصورة بالأنثى.
إلى جانب المأخذ الحقوقي في الدفاع عن تواجد المرأة الحامل في مكان العمل، يجب النظر أيضًا ببراغماتية إلى الأثر الإيجابي العائد على الشركات وعلى المجتمع ككل، إذ أكدت بعض الدراسات على أن الحفاظ على استمرارية النساء الحوامل في العمل أثناء الحمل وبعده يقلل من الدوران الوظيفي، ويزيد من إنتاجية الموظفين وولائهم للمؤسسة.
وحتى تتغير تلك النظرة الذكورية، بالتوازي مع تطبيق القوانين، لا تزال رسيل تبحث عن فرصة عمل جديدة، بعد أن تلقت ردودًا عديدة بالرفض ليس لأنها غير جديرة بالمنصب، بل لأنها أم لطفل صغير. ربما وضع أسماء جاء أفضل قليلًا إذ تمكنت عقب التحاق ابنها بإحدى الحضانات بعد إتمام عامه الأول، العمل بمكتب آخر، بينما تستمر حنان في تأجيل حملها خوفًا من فقدان وظيفتها، لأن الأعراف المجتمعية تقول: إن التقدم الوظيفي والأمومة لا يسيران معًا.