كتابة لما رباح
حين كنتُ مراهقة، أبحث بفضول في صور العائلة وأوراقها وأسرارها، وجدتُ صورًا وضعتها ماما جانبًا ودفاتر مذكرات مزركشة وأوتوغراف، على الأغلب لم يكن يحقّ لي أن أقلّب فيها، ولكني فعلت. ماما، التي تجاوز عمرها الستّين، ما زالت تحتفظ بصورها من رحلاتها مع صديقاتها حين كانت في العشرين، ترتدي فيها بنطال شارلستون وقميصًا ملونًا، يرقصنَ ويغنّين ويجُبنَ مدن فلسطين، ويكتبن رسائلهنّ اللطيفة عن صداقات كانت ستدوم إلى الأبد.
تتذكرهنّ هي واحدةً واحدة، لكني لا أعرف أيًّا منهن. لم أتساءل قبلها لِمَا ليس لأمّي صديقات تزورنا، ظننتُ أنّ كلّ الأمهات كذلك؛ وحيدات. لا تعرف ما حلّ بهنّ، تقول ماما ببساطة إنّ الحياة شغلتهنّ عنها، وانشغلت هي حين تزوجت، واختفين من حياتها وهي اختفت.
أقاربُ اليوم على الثلاثين، وأدرك الآن أنّها قضت سنينها دونهنّ لأن العالم حولها لم يعطِ أولوية لتلك الصداقات، وافترضَ أنّ نساء جيلها عليهنّ فناء حياتهنّ من أجل العائلة فقط، ولحظات الفرح والرقص ورسائل المودّة تلك كلّها ثانوية. ثم إنهنّ لم يكن لديهنّ سلطة حقيقية على حياتهنّ الاجتماعية، فتخليْن عنها وعن أنفسهنّ تدريجيًّا.
أفهم وحدتها الآن، لأن لدي امتيازًا فاتها. أجد اليوم نفسي محاطة بصديقات محبّات أنعمت عليّ الحياة بهنّ على مدار حياتي، منذ المدرسة الابتدائية وحتى اليوم، ولن أبدلهنّ بالعالم. فهذه رسالة حب وامتنان خالصة لهن، ودعوة لكل النساء لإتاحة متسّعٍ في حياتهن من أجل كل هذا الحب.
غيرة وحسد؟
سأبدأ حيث ينتهي الحديث عن الصداقات النسائية عادةً، لنقفل هذا الموضوع من الأساس. يلقنّنا المجتمع، والمدافعون عن الذكورية بشكل خاص، أنّ النساء لا يستطعنَ تطوير صداقات حقيقية بسبب تنافسية سامّة ما، وغيرة وحسد، ويرددون أن المرأة عدوّة المرأة صبحًا وعشاء. وبالفعل، تجدنا أحيانًا نشعر بالتهديد من النساء الأخريات بفعلِ هذه الصور النمطية، لكن علينا فهم هذا التهديد بكونه تحيّزًا ذكوريًّا، يدفعنا إلى ازدراء بعض النساء، أو حرفيًّا إلى الخوف منهنّ، والسعي إلى أذيّتهنّ، لكننا بالتأكيد نستطيع التخلّص من هذا التحيّز. الحقيقة أنّه ليس أصيلًا فينا، ومن تجد نفسها في صداقة ذات معنى أو في مجموعة نسائية داعمة، ستفهم أنّنا لسنا كذلك جوهريًّا؛ بل على العكس تمامًا.
لماذا يجب أن تكون الصداقات أولوية؟
عند الشعور بالضيق، تبحثُ النساء تلقائيًا عن مساحةٍ للبوح والطمأنينة، يتحدثنَ فيها عن مشاعرهنّ وأسرارهنّ؛ عن الحب والفرح والذنب والصدمات النفسية. لذلك تجدهنّ يبحثن عن تلك المساحة في دوائر آمنة يخترنها- إن كانت لديهن رفاهية الاختيار- أو مع صديقات مؤقتات في المساحات النسائية العامة كاجتماعات العمل وصالونات الشعر والأظافر والعيادات. يتبادلنَ الحديث والنصائح والدعم، وحتى التحذيرات؛ كأن تحذّرنا زميلة في العمل من متحرّشٍ أذى واحدةً منا، فيغدو كأنه أذانا جميعًا.
تتساءل كاتبة كندية في مقال عمّا لو كانت حياتنا ستتحسّن لو جاورنا أصدقاءَنا. لو كانت النزهة معهم في الحيّ على بُعد مكالمة واحدة، وحفلات العشاء دون عناء التنسيق المطوّل. أو لو كانوا على استعداد للقيام بدور العائلة، والاعتناء بالأطفال أو المساعدة في أعمال المنزل.
فكّرتُ مليًّا بما كتبته، وتذكرتُ أنَّ للنساء في مجتمعاتنا العربية مقاربة مختلفة؛ نحن لا نجاور الصديقات بالضرورة، بل اعتدنا مصادقة الجارات. تتبادل الجارات الزيارات تقليديًا، دون تنسيق، ويجتمعن دائمًا، لتكون “قعدات النسوان” منفسهنّ الوحيد للصداقات اللواتي حُرمن منها، ومتسّعًا ليكنّ حاضرات في المجال العام، فيشاركنَ أخبار الحي، وآراءهنّ، ويطمئنّ على المرضى ويواسين الفاقدين ويباركنَ للناجحين. تغدو الأم منهن أمًّا لكل أطفال الجيران الذين يلعبون حذا منزلها، وأختًا وبئر أسرار لأخواتها جميعًا.
وبين الاحتمالين، ضعنا نحن. لم تعد علاقات الجيرة بمعناها التقليدي، والصداقات أصبحت أعقد كثيرًا من نزهة نرتبها سريعًا. أتلفّت حولي لأجد أنّ أغلب صديقاتي يعشن في الخارج أو في المدن الفلسطينية القريبة البعيدة، يفصلنا حاجز قلنديا، وجسر الملك حسين، وتأشيرةٌ لهولندا، ولدبيّ، وتذكرةٌ توصلني إلى آخر نقطةٍ على الساحل الغربيّ الأمريكيّ، وجداول الاعتناء بالأطفال، والعمل المتكدّس دومًا. لكن ذلك كله لا يمنعنا من أن نكون حاضرات في حياةِ بعضنا البعض، بالزيارات والاتصالات المستمرّة والرسائل والحبّ العابر للقارات، لتدوم صداقتنا أعوامًا طوال.
لا أعتقد أنّ لديّ حاجة أعمق من حاجتي للصداقات النسائية، لذا نضطر جميعًا للتحايل الدائم على المجتمع الذي لم يترك مجالًا لنا ولا مكانًا آمنًا لتشكيلها، ويشكك دومًا في جدواها. علاوةً على أنّ تلك الصداقات مساحةٌ للبوح، هي أيضًا براح لنشعر أنّنا مرئيات؛ آراؤنا ومشاعرنا مهمَّة، ونستطيع تشكيل شبكات حماية ومساندة تخصّنا.
كيف يكون النضالُ من أجلها؟
يُقال إنّ الأختية ليست تعاطفًا رخوًا؛ هي العلاقات الوحيدة التي تبدأ وتستمرّ بخيارٍ واعٍ، نختار فيها نساءً نشاركهنّ الحياة، في علاقة نكون فيها متساويات، لا لواحدةٍ منّا سلطة على الأخرى؛ أدوارنا متبادلة، والثقة متبادلة، وتسامحنا ليس له نهاية. والصداقة لا تعني التماثل، فهي تتطلّب فهمًا عميقًا وتعاطفًا تجاه اختلافاتنا وتجاربنا المشتركة على حد سواء، وفهمًا لامتيازات كل واحدةٍ منا والاضطهاد الذي تعرضت له. لذا، أساسُ البحث عن “أخت” مختارة في هذا العالم هو المراوحة بين الاحتضان والمساندة؛ بين القوة والهشاشة.
كلّ هذا الحبّ هو نضالٌ سياسيّ اجتماعيّ نسويّ.
لتستمرّ هذه الصداقات، نحتاجُ ارتداء قبَّعاتٍ مختلفة. تجدنا أحيانًا نلجأ للصديقات بمشاعر أختيَّة، أو بمشاعر طفولة ومغامرة، وأحيانًا أخرى نرتدي قبّعة الأم البديلة، أو أمينة السرّ، أو حتى الحارسة الشخصية. المهمّ أن نكون دومًا موجودات ونفتح قلوبنا على وسعها. وأجمل ما في الأمر أنَّ النساء معتادات فقط على تقديم الرعاية والحبّ للجميع، لا استقبالهما. لكن في الصداقات؟ الرعاية والحب متبادلان.
نرى ذلك في شكل الصداقة اليومي، كأن تعلّمني صديقتي السباحة، وحين أفشل، تحملني في البركة لأجرَّب شعورَ انسياب المياه. وكأن أقضي ساعات أسرّح شعرها، لأنها سبق وسرّحت لي شعري، أن أحبّ طفلها كما لو كنتُ أمًّا له، وأنْ أعرف أنني حين أتصل بها، ستفتح لي باب منزلها لتضمني وأبكي، وأعرف أنّ بضع ساعاتٍ نسترقها وسط انشغالات الحياة كفيلة بإصلاح مزاجينا لأسابيع. وأعرف أنّني وإياها نتشارك الحلم ذاته، وأنّنا سندعم بعضنا إلى ما لا نهاية.
سهّلت علي صديقاتي أن أحبَّ نفسي، وأعبّر عنها، وأن أُزهر حين تتركُ كل واحدة منهنّ أثرها عليّ، وجعلنَ الغربة أقلّ مرارة، وفلسطين منزلًا أجمل، وسخّرنَ أنفسهنّ لحمايتي، ومرافقتي في أحلك الظروف وأحلاها وفي رحلِ الاستكشاف والمغامرة والفرح، ولذلك لا أبدلّهن بالعالم وأحاول قدر المستطاع ردّ الجميل.
لم تكن الصداقات النسائية أولويةً لديّ دومًا، لكن حالما نعمتُ بصديقتي المقرّبة الأولى، فهمت أنني يجب أن أناضل لأجعلها أولوية طوال العمر. وأدرك الآن أنّ الأمر يحتاجُ التزامًا حقيقيًا، وجهدًا ووعيًا للحفاظ عليها، وهو فعلًا يستحق ذلك الجهد، لأنّ صداقتنا طوق نجاةٍ حقيقيّ في هذا العالم.
إلى أختيّ لينا وأريج، وإلى صديقاتي هنادي، ودينا ودينا ودينا، ورولا، ورند، وزينة، ولبنى، ولمى، وفرح، وهِبة، وإلى كلّ النساء الملهمات الحنونات في حياتي؛ ممتنَّة لوجودكنّ في العالم.